رأي

ابحث عن روسيا وإيران في اتصال بلينكن والبرهان

كتب محمد أبوالفضل, في “العرب” :

البرهان يأمل في حث بايدن وطاقم إدارته على التحرك لتقديم مساعدة تمكنه من التفوق ميدانيا على قوات الدعم السريع.

توقف الكثير من السودانيين عند الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الثلاثاء الماضي، لأن الاتصال الذي استغرق نحو نصف ساعة هو الأول منذ أكثر من عام، ومضمونه المعلن يميل نحو الطابع الدبلوماسي من ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات ووقف الحرب ضد قوات الدعم السريع إلى تسهيل دخول المساعدات الإنسانية.

الحاصل أن قراءة محتوى الاتصال في هذا التوقيت تجعل تفسيره مختلفا عمّا هو معلن، فالحرب التي أظهر وزير الخارجية الأميركي انشغاله بوقفها مضى عليها أكثر من عام ولم تقدم واشنطن ما يثبت حرصها التام على وقفها ومنع تمددها وفقا للخارطة الجغرافية التي عليها الآن، والمفاوضات متعثرة منذ حوالي عشرة أشهر والولايات المتحدة وسيط فيها ولم تتحرك بما يكفي، والمساعدات تواجه صعوبات قبل أن تندلع الحرب في أبريل من العام الماضي والإدارة الأميركية تتعامل معها باستهانة.

لعل الأجواء العامة تكشف أحد أهم أسرار قيام بلينكن بالاتصال بالجنرال البرهان، حيث سبق وأن بعث قائد الجيش برسائل عديدة لمن يهمهم الأمر في البيت الأبيض من خلال انفتاحه على كل من روسيا وإيران، أملا في حث سيد البيت الأبيض الرئيس جو بايدن وطاقم إدارته على التحرك نحو نجدته وتقديم مساعدة تمكنه من التفوق عسكريا وسياسيا على قوات الدعم السريع، لكن لا حياة لمن تنادي، ففي كل مرة جرى التلويح فيها بورقة روسيا كان صوت الولايات المتحدة يعلو بإظهار القلق فقط والإيحاء بالضغط على قائد الجيش من دون تقديم ما يسعى إليه الأخير.

بوتين يضع عينيه على الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأحمر، ما يعني حدوث خلل في التوازنات التي تريدها واشنطن في المستقبل


وكانت الرسائل المتعلقة بإيران أقل وضوحا، لأن البرهان يعلم خطورة المناورة بها فقد تجلب متاعب كثيرة من الولايات المتحدة وربما بعض الدول العربية، لكن العلاقات مضت في طريق مستقيم من أجل تطبيعها تماما مع طهران، واُتخذت بعض الخطوات الجادة في هذا السياق، وفي كل لقاء جمع بين مسؤول سوداني وآخر إيراني كان الحرص على تطويرها يتجدد، ومع اشتداد وطأة الحرب وطول مدتها زادت الحاجة إلى روسيا وإيران، وبدت تحركات البرهان مع الدولتين أقل اكتراثا بالانزعاج الأميركي.

اعتقدت الولايات المتحدة أنها وضعت ضوابط على السودان كفيلة أن تردعها عن الاستعانة بموسكو والدخول معها في مرحلة متقدمة من تطوير العلاقات بما يقودها إلى الشق العسكري الذي يمكّن روسيا من وضع قدمها في شرق السودان. وأعلنت الخرطوم قبل اندلاع الحرب الراهنة تجميد اتفاق عسكري مع موسكو وقّع أثناء فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير، ووقتها كانت المناورة السودانية بالورقة الروسية بهدف الحصول على مكاسب كبيرة من الولايات المتحدة، ولم تكن الورقة الإيرانية ظهرت في الأفق، أو كانت معالمها تدور في الخفاء.

اطمأنت واشنطن إلى أن القيادة العسكرية في السودان لن تجازف بالانحياز لموسكو وقت العمل بالوثيقة الدستورية واستمرار التحالف مع القوى المدنية كضامنة لعدم العودة إلى سياسات النظام السابق وألاعيبه، لكن المعادلة تبدلت بعد الانقلاب العسكري على الحكومة المدنية في الخرطوم، ثم اشتعال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث وقفت واشنطن موقفا وسطا، وهو ما لم يكن مرضيا لطموح قادة الجيش الذين لوحوا بروسيا وتركوا الخيوط معها مشدودة في الخفاء، تحسبا لأيّ خديعة أميركية.

ألقت زيارة نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف إلى بورتسودان في أول مايو الماضي بحجارة كثيرة في مياه العلاقات مع موسكو وواشنطن، فالأولى اعترفت بمجلس السيادة السوداني الذي يقوده البرهان كسلطة وحيدة في البلاد، وبعدها جرى الحديث عن التعاون المشترك، بينما الثانية (واشنطن) لم تقم بخطوة مماثلة أو قريبة، وظلت قابضة على العصا من المنتصف في علاقتها بالجيش والدعم السريع.

زاد الحديث عن تطور العلاقة مع موسكو عقب إشارة نائب قائد الجيش ياسر العطا بافتتاح محطة لتزويد السفن الروسية بالوقود في بورتسودان قريبا، وظهرت تجليات التعاون مع إيران في الدور الحيوي الذي لعبته طائراتها المسيّرة في أمّ درمان، ما يشي أن الجيش عصف ببعض الثوابت الأميركية، أو ما تعتقد واشنطن أنها ثوابت يصعب المساس بها من قبل السودان الجريح، وهذه النوعية من التحركات هي التي أغضبت واشنطن، لأن خيوط اللعبة التي تصورت أنها قابضة عليها أو بعضها يمكن أن تتسرّب من بين يديها، بل ربما تذهب إلى ألدّ خصومها في المنطقة والعالم.

واتساقا مع هذا التقدير، يشير اتصال بلينكن بالبرهان إلى أنه كان عاصفا، ولم يكن وديا بالمرة أو انطوى على استجداء وضغط معا، لأن قائد الجيش الذي واجه انكسارات ميدانية الفترة الماضية يمكنه التحالف مع الشيطان إذا وجد أنه سينقذه من ورطته العسكرية بعد أن أدرك عدم جاهزية واشنطن لتقديم مساعدات والتدخل بما يتواءم مع مكانتها كقوة دولية كبيرة حرصت على التعاون مع مؤسسات عسكرية عدة في العالم، وأسهمت كثيرا في دعم جيوش في الوصول إلى السلطة في أفريقيا.

يحقق البرهان من خلال تطوير علاقته بروسيا هدفين مهمين، الأول: التأثير على ما تردد بقوة حول وقوف قوات فاغنر الروسية بجانب الدعم السريع في بداية الحرب، فلن تتمكن موسكو من الاستمرار في دعم الطرفين المتصارعين في آن واحد، وبالتالي تتراجع قوة الدعم السريع ميدانيا من وجهة نظر الجيش، والثاني: تحريض الولايات المتحدة على التحرك لدعم البرهان الذي بدأ يتخذ خطوات عملية لتطوير علاقته مع موسكو ولم يعد يرضخ لتهديدات تصله من جهات إقليمية أو دولية، لأن طريق التعاون مع روسيا لن يتوقف عند دعم معنوي أو حمولات من الأسلحة الخفيفة.

ولا يزال الرئيس فلاديمير بوتين يضع عينيه على الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأحمر، ما يعني حدوث خلل فاضح في التوازنات التي تريدها الولايات المتحدة في المستقبل، وأن السودان يصبح قاب قوسين أو أدنى من روسيا، ويعني انضمامه العودة إلى لعبة أحجار الدومينو التي يؤدي سقوط إحداها إلى سقوط ما تبقى منها، في وقت ضجرت واشنطن ودول أوروبية من تنامي النفوذ الروسي في غرب أفريقيا، ويفضي امتداده إلى شرقها، ممثلا في السودان، لخسارة إستراتيجية فادحة للغرب.

ويبدو أنه أينما وضعت موسكو قدمها تتبعها طهران في وضع القدم الأخرى، وهي ازدواجية قاسية على الولايات المتحدة، فظهور بصمات إيران في حرب السودان وترجيح كفة الجيش عسكريا سوف يقود إلى تحولات في المنطقة، لن تستطيع واشنطن وحلفاؤها تحمل تبعاتها على المدى الطويل، إذ يمثل إرهاقا إستراتيجيا لها، ويجعلها تكافح على جبهات عدة برؤية ضبابية وغير قادرة على حسم ملفات كثيرة لصالحها.

تضع مقاربة روسيا وإيران في السودان الولايات المتحدة في مأزق عميق، قد يجبرها على التخلي عمّا ظهر في تصرفاتها من بطء ويدفعها إلى التدخل بخشونة واضحة لحض الطرفين المتصارعين على وقف الحرب، أو التسريع باستخدام كل أدواتها الناعمة لاستئناف مفاوضات جدة وتمهيد الطريق لتسوية سياسية حقيقية، قبل أن تؤدي حرب السودان إلى تحوله إلى منطقة نفوذ تتصارع عليها قوى إقليمية ودولية علنا.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى