إعادة هيكلة البنوك التجارية، تجرع سم لمريض شفاه الله من ورم سرطاني
كتب أستاذ محمد ياسر الصبان ل”رأي سياسي” المقال التالي:
أصعب ما يصيب الفرد في حياته هو الإدمان على تجرع مخدر يقتله ببطء، ولكن الأصعب من ذلك هو أن يكتب الله له الشفاء ويكشف له خطورة هذا الداء، ولكنه يزحف بيديه ورجليه لإستعادته. والغباء المطلق هو أن يحتج المريض بأن كل الناس تتجرع هذا السم بإعتباره قدر لا مهرب منه.
هذا المثال هو تماماً ما حدث ويحدث للمجتمع اللبناني. والزحف لإعادة هيكلة البنوك علماً انها كالغدة السرطانية القاتلة والمتسببة للوكيميا المال في أجسام المجتمعات والمشابهة للغدد التي تتسبب بلوكيميا الدم في جسم الإنسان.
غدد خبيثة تسرق النعمة والبركة من النقود وتتسبب بالتضخم المالي لكافة العملات العالمية، وتدعي انها بريئة وأن الاقتصاد والنمو مستحيل بدونها، وهذه طبيعة الغدد السرطانية التي تجعل الجسم أسيراً لها، ولا يمكنه الاستغناء عنها، وهذا هو حال البنوك التجارية في المجتمعات كافة، وقد كشفت الأزمة الاقتصادية اللبنانية لصوصية هذه الغدد السرطانية التي تفتك بالمجتمعات وتنهب خيراتها بدون أي سبب علمي سوى أنها قادرة على تسييل الكتلة النقدية وتوليد مضاعف الإئتمان بكميات تكاثرية ضخمة تساهم في تسهيل الدورة المالية في المجتمعات ولكنها بالمقابل تسطو على كل ثمرات النمو الذي تحققه سيولة وسهولة الدورة المالية.
فالمجتمعات مثلها كمثل جسم الإنسان، الدماغ هو الادارة السياسية والأعضاء النبيلة هي المولدة لخيرات الجسم من فيتامينات ومضادات وهذه الخيرات تصل الى كافة الأطراف عن طريق الدورة الدموية أو الدورة المالية. أي أن السائل الحيوي يجب ان يكون مليئا بكافة احتياجات الجسم من الخيرات. فإذا تضخمت كمية هذا السائل الحيوي بشكل غير متناسب مع نمو الجسم تتحول الدورة المالية الى لوكيميا تضخمية فاقدة للخيرات وللبركة ويصبح الجسم كله عليلاً بينما الغدد المولدة للسائل بكميات كبيرة تسرق خيرات الجسم لنفسها وتتسبب بإنتشار الفقر والبؤس والفساد في كل الجسم. فمشكلة تجارة المال وتضخيم الكتلة النقدية قديمة قدم ولادة المجتمعات، وعلى مر العصور كانت مهنة الصياغة وتجارة المال واحدة، حيث يعمد المرابي الصائغ الى خلط المعادن الرخيصة بالذهب والفضة فتتضخم الكتلة النقدية ويسرق خيرات الناس مدعياً أن الطبيعة ولّدت عنده ذكاء ومعرفة تمكنه من السيطرة على صناعة النقود وفرض الإتاوة على الناس العاديين المتخلفين وتسخيرهم لخدمته كالعبيد. ومع الإنتقال من النقد المعدني الى النقد الورقي الذي بدأ كسندات أمانة ثم انتشر كالنار في الهشيم بسبب حب الناس للمال ونجاح تسييل الكتلة النقدية بتحقيق النمو الاقتصادي والثقافي، إنتفت حاجة المرابي لمهنة الصياغة فتركها لمن هم دونه وسيطر على مهنة توليد النقد الورقي (بنكنوت) بداية، ثم انتقل الى توليد النقد الوهمي الكتابي بعد سيطرة حكومات العالم على مهنة توليد النقود الورقية. فتقاسمت حكومات العالم والبنوك التجارية خطة سرقة خيرات المجتمعات، والبذخ في الإنفاق عن طريق التوسع في ضخ السيولة النقدية بكافة أشكالها دون ان يسمحوا لأحد ببحث مسألة ضريبة ضخ المال، وبالتالي فقد أبقت الحكومات على مبدأ الجباية الضريبية المتخلف واستخدمت ضريبة ضخ السيولة بإعتبارها تيسير كمي للكتلة النقدية. وتركت للبنوك التجارية مهمة توليد النقود الائتمانية الدفترية التي تمكنها من سلب خيرات الناس الغافلة عن نعم الله وبركته المسلوبة من المادة التي تنتقل بواسطة النقود والتي يطلق عليها عامة الناس لقب (الثروة او القيمة الشرائية) إلا أنها في الحقيقة أكبر وأهم من ذلك بكثير، فهي (النعمة والبركة) التي بتسربها من النقود تتسرب الخيرات والبركة وينتشر البؤس والفقر والفساد والتخلف والحروب بين البشر.
لقد عانت شعوب أوروبا من انتشار البؤس في عز عصر النهضة، وتسبب اختباء تجار المال خلف جدار حماية يهودية، بكره شديد لليهود وبأكثر من ستين معركة اوروبية ضدهم سببها تجاور البؤس والفقر للشعب الأوروبي مع الثراء الفاحش للشعب اليهودي. وكان لا بد من حروب عالمية يتجاوز عدد ضحاياها عشرات الملايين لإخفاء اللعبة الجهنمية وتوليد قانون تجريم العداء للسامية.
ولكن، وبما أنه لا وجود للجريمة الكاملة فقد انفجرت الازمة اللبنانية غير المسبوقة لتجارة المال، وسقط بسببها القناع عن كافة البنوك التجارية وعن البنك المركزي في نفس الوقت، وانكشف النقد الوهمي الدفتري كما انكشف لكل الناس قدرة السلطة على فرض الضريبة والإنفاق بواسطة ضخ النقد الورقي من البنك المركزي، كما انكشف فساد موظفي الإدارات الرسمية وفساد المؤسسات الإنتاجية التي تعتمد على سلطتها بالإحتكار وبفساد ما تنتجه وارتفاع كلفتها.
وأكاد أؤكد بأن الازمة اللبنانية الخانقة على شدتها غير المسبوقة عالمياً هي نعمة للعقل الحكيم القادر على الرؤية الواضحة لكل عاقل يفقه لغة العقل ولا يتقبل الموروث الفاسد. لقد انكشفت اللعبة المصرفية التي تدفع الناس للعمل وبذل الجهد والعرق لتسرق كل ثمرات انتاجهم وتستعبدهم وهي خلف مكاتبها المكيفة.
وكعادة كل الازمات عبر التاريخ، تكون الازمة سبباً للبحث عن الحقيقة والإكتشاف، فكل النجاحات في الدنيا ولدت من رحم الأزمات، والازمة اللبنانية كشفت المصارف التجارية على حقيقتها وكل الناس يدركون اليوم انها سرقت كل خيراتهم ومدخراتهم وقيمة رواتبهم، كما اكتشف اللبنانيون قدرتهم على الاستمرار وتحقيق النمو في غياب التمويل المصرفي، وهو أمر لا بد من بحثه والبحث عن بدائله وعن الاسباب الموجبة التي سمحت لهذه الغدد السرطانية بالتغلغل في مجتمعات العالم، ولا بد من البحث في نتيجة ضخ السيولة من البنك المركزي لقطاعات الانتاج كما حدث في ألمانيا بعد الحرب الكونية الاولى واليابان بعد الحرب الكونية الثانية، ولا بد من بحث واقع الدول الاشتراكية التي انفقت على المجتمع بضخ السيولة في غياب فعالية الإنتاج وبوجود بطالة مقنعة هائلة وتمكنها من الإستمرار لعشرات السنين في غياب الغدد السرطانية.
العاقل سيكتشف امكانية تحويل الازمة اللبنانية الخانقة الى منصة إطلاق لعلم سياسي واقتصادي متطور جداً، يقضي على الفقر والبؤس والفساد السياسي والإداري، ويولد النمو والرفاهية والعدالة والتراحم والأمان في ربوع لبنان. ولكن وبكل أسف فإن بعض من يدعون الفهم والعلم، وبدلاً من البحث الحثيث عن العلاج الشافي الذي بات متاحاً بيسر وسهولة مع النعمة التي أسبغها الله على اللبنانيين بالقضاء المبرم على الغدد السرطانية التي انتشرت في جسمه منذ ولادته حتى الآن فجائته النجدة وكشفتها وقضت عليها، تجدهم يجاهرون بخططهم التافهة السفيهة الإجرامية بحق الوطن والانسانية والمبنية على فكرة إعادة هيكلة القطاع المصرفي معتقدين أنه لا حياة لهم بدونه، مع ان كل الحضارات عبر التاريخ ولدت في غيابه، ووحدها الحضارة المادية المولدة للبؤس والفساد وغياب البركة والخيرات هي التي تزامنت مع وجود هذه الاورام المولدة للنقود الوهمية الخبيثة.