كتب سليم البطاينة في “رأي اليوم”:
رغم الغموض الذي يغطي سطح الأجواء فإن الكثير من المؤشرات بدأت تكشف عما يحصل داخل منطقة الشرق الأوسط ، فثمة تحولات دقيقة ومواربة تمضي قِدما في المنطقة ، فهناك اتّصالات تجري بعيدة عن الأضواء تؤكد أن المنطقة أمام مرحلة جديدة بدأت معالمها ترتسم بوضوح وفي أكثر من اتّجاه لتشكيل تحالفات سياسية إقليمية جديدة ، فالشرق الأوسط يعيش حالياً حالة من ضبط أشكال التحالفات .. فهنالك أفكارٌ عديدة تسربت تُشير إلى أن امريكا تريد إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية لدول الشرق الأوسط تكون بديلاً عن تلك التي وضعتها بريطانيا وفرنسا ( سايكس بيكو ) ، وتكون فيها إسرائيل القوة المهيمنة في الإقليم نظراً لتفوقها العسكري والتكنولوجي والإقتصادي.
وحاليًا نرى أن هناك حراكًا إقليميًا واضحًا وكبيرًا على وقع الحدث الأوكراني من جهة وعلى وقع إمكانية توقيع الإتفاق النووي بين أمريكا وإيران ونيّة واشنطن لشطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب من جهة أخرى .. والجميع يدرك أن المشهد المقبل مرتبط بشكل كبير بنتائج تلك الأحداث ، وما يمكن أن تحدثه من تغير لخرائط النفوذ والأدوار ، لا على مستوى الإقليم فحسب بل على مستوى العالم.
فإتفاقيات إبراهام تتشكل بسرعة في ظل مواصلة واشنطن انسحابها من الشرق الأوسط .. واتفاقيات التطبيع الخليجية مع إسرائيل حرّكت بوادر بزوغ ثلاثة محاور إقليمية ، وترسيخ العلاقات الأمنية بلا شك سيعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط في منطقة تَموج بالعواصف السياسية.
وفوضى الإشارات الأمريكية أصبحت لا تراعي مصالح دول الخليج وباتت تعطي الأولوية لإيران ، وتمهد لإطلاق يدها على أكثر من مستوى نحو التسلح النووي ، وتمكينها من عائدات النفط للإنفاق على أذرعها .. وهذا ليس بغريب فالأمريكان شيدوا لأنفسهم ثقافة خاصة بهم منذُ نشأة الولايات المتحدة ، إذ صنعوا فكراً لمفهوم البرغماتية التي تحولت إلى تيار فلسفي يكون فيها العمل السياسي قائماً على مصالحهم دون الإكتراث للشعوب أو الحكام أو أية إتفاقيات أخرى .. فحتى الآن لا يوجد في الأفق ما يشير إلى أن الموقف الأمريكي سيتغير على المدى المنظور في القضية الفلسطينية .. وأمريكا بعد الآن لن تعود للقتال خارج أراضيها بل ستترك لحلفاء جدد مهمة حماية أمنها وأمن إسرائيل.
عمومًا لم يخطر ببال أي أحد كان أن يأتي اليوم الذي تقاس فيه مسارات الهرولة نحو إسرائيل بمقياس مطاطي ، فالواضح أننا أمام مسابقة فريدة من نوعها في الهرولة نحو الدولة العبرية .. فالهرولة لها ثمن وهذا الثمن لا يتوقف ولا ينتهي ، والمكاسب أيضاً من الممكن لها أن تتحول إلى أثمان .. فوتيرة الغرام تصاعدت وإسرائيل لن تجد وقتاً أفضل من الوقت الحالي لتمرير جميع مشاريعها وتحقيق أحلامها في ظل حالة التشرذم العربي الغير مسبوق ، فهي تريد الحاضر ونسيان الماضي.
إنه زمن إسرائيلي قلت فيه المضادات الحيوية الفكرية والسياسية وانعدمت فيه الحصانة والمناعة داخل الوطن العربي .. فالإقدام على غلق ملف الصراع العربي الإسرائيلي هو تغير وتبديل لبوصلة الصراعات وعقيدة الجيوش.. فقد بات من الصعب العثور على أي تكتل مناهض لإسرائيل ، فالتطبيع معها أصبح هو القاعدة والمقاطعة هي الإستثناء ، وبِلُغة الربح والخسارة إسرائيل هي الرابح الأكبر مّما يحدث .. لذا لا نأتي بجديد إن قلنا أن قمة النقب الأخيرة تكرس وجود إسرائيل كقوة إقليمية فاعلة، وتضعها على رأس تحالف يمثل منظومة عسكرية وسياسية واقتصادية وأمنية.
فالخاسر الوحيد الذي لم يُسمع له صوت في تلك القمم هم أبناء الشعب الفلسطيني، فقضيتهم خسرت مساحة كبيرة نتيجة الهرولة نحو إسرائيل.. فالتطبيع حول القضية الفلسطينية إلى قضية داخلية تتولّاها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
أما الحدث المهم في اللّقاءات التي تمّت أخيرًا كان لقاء شرم الشيخ بين الرئيس السيسي ومحمد بن زايد ورئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينت الذي تمحور حول خطر إيران وعن قرب إتفاق أمريكي أوروبي لإتمام الإتفاق حول الملف النووي الإيراني وتداعيات ذلك على المنطقة ، وسعي مصر أيضاً لتأمين حاجتها من الحبوب ( القمح ) وتعديل البروتوكول الأمني مع إسرائيل المنبثق من معاهدة السلام بينهما عام ١٩٧٩.
فالدور المصري في الملف الإيراني هو دور رمزي نظراً لثقل مصر، فهي لا تنظر لإيران كتهديد ذي أولوية لها ، ولن تقوم بأي عمل ضمن ملف يخص إيران إلا في حالة ضخ أموال ضخمة من دول الخليج تُسهم في علاج أزمة مصر الإقتصادية.
وأبو ظبي على الجانب الآخر لا يعجبها انحراف السياسة الأمريكية فهي تسعى إلى توقيع إتفاق أمني معها وبموافقة الكونغرس تحديدًا.
وإسرائيل من جهتها ستعمل على استغلال الفرص التي توفرها لها أزمات المنطقة لتَمد من نفوذها ليس في المجال الجيوسياسي بل في مجالات الطاقة والإقتصاد والأمن والتكنولوجيا ، والسيطرة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر بحيث تصبح البوابة الإقتصادية للمنطقة ، مع العمل على هدفها الأيدولوجي لإحياء الحضارة اليهودية وتنشيط وإثراء فكرة الصهيونية كمبدأ أساسي ، وإقامة إسرائيل الكبرى ذات الهوية اليهودية النقية ، وإعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى بإعتباره الهدف الأساسي ليهود العالم والقادر على توحيدهم والتفافهم حول إسرائيل.
ومن خلال عدسة توازن القوى والتحالفات فإن أمريكا تدرك دور الأردن مع حالة الترابط الجيوسياسي والديموغرافي مع الضفة الغربية ، فهي تنظر للأردن كلاعب رئيسي من الممكن أن يخفف من وطأة مواجهات محتملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ولقاء العقبة الخماسي يأتي استكمالاً لإجتماع شرم الشيخ ، فقبل تلك الاجتماعات والقمم استقبل الملك عبدالله خلال فترة قصيرة في الأسابيع الماضية وزير الخارجية الإسرائيلي ( يأير لابيد ) ، ومن بعده وزير الأمن الوطني ( عومر بارليف ) ، ووزير الدفاع ( بيني غانتس ) ، وبعد ذلك استقبل رئيس دولة إسرائيل ( بتسحاق هيرتزوغ ) الذي أُستقبل استقبالاً رسمياً في القصر الملكي ، وبعد ذلك زار رام الله والتقى الرئيس عباس.
فمشروع الشام الجديد الذي يضم مصر والعراق والأردن بدأ يأخذ طريقه عبر خطوات مدروسة ، ووجود الإمارات سيدفع إلى تفعيل وتقوية المشروع خاصة في موضوع التمويل ، والمشروع سيشمل قريباً دولاً أخرى منها لبنان وسوريا في مرحلة مقبلة.
إقليمًا قوة إيران وتركيا في ازدياد وبات حضورهما وتأثيرهما في جل الصراعات القائمة في الشرق الأوسط بادياً للعيان ، فالسعودية لم تقم بالتطبيع مع إسرائيل لكن حسب مسؤول أمريكي أن السعودية أقامت علاقات عسكرية وإستراتيجية وشراكات أمنية واقتصادية ضد إيران .. وبات الصراع في اليمن هو الأكثر تعقيداً بالمنطقة.
فالخوف من واقع سريع التبدل ، لذا علينا أن نتابع بحذر التغيرات من حولنا ، فبعضها سيكون تحولاً كاملاً .. والتحالفات القديمة لم تعد قابلة للتماسك ، فقد شارفت على بلوغ حدّها الأقصى في مراوحة المكان والإختلال الوظيفي .. فثمة خيوط مشتركة تربط بين جميع الإجتماعات التي عُقدت بشرم الشيخ والنقب ( قمة الأمل ) ، والعقبه ، ورام الله ، وزيارة الرئيس السوري لأبو ظبي ،
وكل تلك المخططات ذكرها مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس كارتر Zbigniew Brzezinski ( ١٩٧٧ – ١٩٨١ ) في مذكراته تحت عنوان ( تفتيت قوس الأزمات ).