ألمانيا المأزومة
كتب بشار نرش, في “العربي الجديد” :
مع انهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا (ائتلاف إشارات المرور)، إثر إقالة المستشار الألماني أولاف شولتز وزير المالية كريستيان ليندنر، ثمّ استقالة وزيرين ينتميان إلى حزب ليندنر (حزب الديمقراطيين الأحرار) من منصبيهما، وفقدان الحكومة أغلبيتها في البرلمان (البوندستاغ)، دخلت ألمانيا أزمةً سياسيةً يمكن اعتبارها اختباراً حقيقياً للهيكل السياسي الألماني، خصوصاً في ظلّ تشابك التناقضات السياسية مع التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، التي تتطلب قرارات سريعة وحاسمة.
في ظلّ هذا الواقع المأزوم والمعقّد، الذي تزامن مع إعادة انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، مع ما قد يحمله ذلك من تداعيات كبيرة على تجارة ألمانيا وأمنها، تبدو قدرة الحكومة الألمانية في المحافظة على تماسكها محلّ تساؤل، الأمر الذي يطرح صعوباتٍ عديدة على الصعيدَين الداخلي والخارجي.
داخلياً، يتوقّع أن تواجه الحكومة صعوبة في التوافق على قرارات اقتصادية كبرى للتخفيف من آثار التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة، ولا سيّما مع تزايد شعبية المعارضة اليمينية التي تنتقد سياسات الحكومة الحالية وتروّج سياسات أكثر تحفّظاً في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لهذا، يذهب باحثون ومتخصّصون عديدون إلى الحديث عن ثلاثة سيناريوهات متوقّعة لمآلات الأزمة داخلياً:
الأول: إعادة هيكلة الائتلاف تفادياً لزيادة عدم الاستقرار الذي سيؤثّر بقوة في سياسات الحكومة الألمانية، ليس داخلياً فحسب، بل خارجياً أيضاً، لهذا قد يلجأ المستشار الألماني إلى التفاوض مع قادة أحزاب أخرى للتوصّل إلى تفاهم جديد يضمن استمرار الائتلاف إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية المقرّرة في سبتمبر/ أيلول المقبل. وهنا قد يلجأ شولتز إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي أو أحزاب أخرى، لكنّ هذا السيناريو يبدو صعبَ التحقّق، بالنظر إلى التباين الأيديولوجي بين الحزبين، الديمقراطي الاجتماعي والاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي يدعو منذ مدّة إلى انتخابات مبكّرة يرى فيها فرصةً لزيادة عدد مقاعده في البرلمان، ولا سيّما بعد تصدّره استطلاعات الرأي للفوز في الانتخابات، بحصوله على 32% من نسبة الأصوات، في مقابل 16% للحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يتزعمه شولتز.
من المتوقّع أن تعيد انتخابات مبكّرة في حال حصولها، رسم الخريطة السياسية في ألمانيا، وستكون بمثابة جائزة للأحزاب المتطرّفة يميناً ويساراً
الثاني: قيادة حكومة أقلّية مع حزب الخضر، وهو سيناريو أكثر ترجيحاً من الأول، ولكنّه يعتمد أساساً على دعم أحزاب أخرى في البوندستاغ حسب كلّ قضية تشريعية، إلى حين طرح الثقة في الحكومة، المقرّر في 15 يناير/ كانون الثاني المقبل، فإن تمكّنت الحكومة من الحصول على ثقة البوندستاغ (وهذا مُستبعَد) ستستمر حكومةَ أقلّيةٍ حتى نهاية سبتمبر، موعد الانتخابات البرلمانية. لكنّ هذه الحكومة ستكون ضعيفةً وغير مستقرّة وغير قادرة على اتخاذ قرارات مهمّة أو تنفيذ إصلاحات اقتصادية مطلوبة. وإن لم تحصل الحكومة على ثقة البوندستاغ (وهو المتوقّع) ستذهب البلاد إلى انتخابات مبكّرة، متوقّعة في مارس/ آذار المقبل، أي قبل ستّة أشهر من الموعد المقرّر للانتخابات البرلمانية.
الثالث: اللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكّرة. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يعتبر الأقلّ تفضيلاً لشولتز، بسبب التكاليف السياسية المرتبطة به، إلا أنّه يظلّ الأكثر ترجيحاً، سيّما بعد إعراب شولتز عن انفتاحه على مناقشة تنظيم انتخابات مبكّرة.
وبالتالي، من المتوقّع أن تعيد هذه الانتخابات المبكّرة، في حال حصولها، رسم الخريطة السياسية في ألمانيا، وستكون بمثابة جائزة للأحزاب المتطرّفة يميناً ويساراً، سيّما حزب البديل من أجل ألمانيا (اليميني المتطرّف)، الذي تمكّن قبل شهرين من تحقيق فوز كبير في الانتخابات المحلّية في مقاطعتي تورنجن وسكسونيا، بحصوله على أكثر من 30% من أصوات الناخبين في الولايتَين، متخطّياً الأحزاب التقليدية جميعها، بما في ذلك أكثر حزبَين أهمية في ألمانيا، الديمقراطي المسيحي (حزب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل)، والديمقراطي الاجتماعي (حزب المستشار شولتز)، الذي حصل على نسبة ضئيلة للغاية لا تتعدّى 7%.
على الصعيد الخارجي، إعادة انتخاب ترامب رئيساً في الولايات المتحدة تعني عودةً محتملةً لسياساته الاقتصادية الحمائية، ما قد يؤثّر في التجارة الألمانية، وخصوصاً في ظلّ اعتماد الاقتصاد الألماني على الصادرات. كذلك فإن مواقف ترامب السابقة من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعلاقاته المتوتّرة بالحلفاء الأوروبيين، تضع ألمانيا أمام تحدّيات أمنية وسياسية، قد تتطلّب إعادة صياغة سياساتها الدفاعية والخارجية.
باختصار، ألمانيا اليوم أمام مفترق طرق حرج، يتطلّب قراراتٍ حاسمةً لتحافظ على استقرارها الداخلي ومكانتها الدولية، في وقت يواجه فيه العالم تحدّيات متزايدة على المستويين الاقتصادي والسياسي، ما قد يجعل من الصعب تحقيق توافق داخلي يعزّز من صمود الحكومة الحالية. لذلك، يبدو سيناريو الانتخابات المبكّرة الأكثر ترجيحاً، وهو ما تدعمه نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد إفراتيست ديماب، في 8 نوفمبر/ تشرين الأول الجاري، وأكّد رغبة 59% من المشمولين فيه في إجراء انتخابات مبكّرة، وفي أقرب مهلة بعد انهيار “ائتلاف إشارات المرور” الحاكم منذ أواخر 2021، وهو ما يدعم أيضاً موقفَ المعارضة، التي كثّفت خلال الأيام القليلة الماضية دعوتها إلى تنظيم انتخابات مبكّرة في أقرب وقت ممكن.