رأي

أثرياء الأزمات… خلل في الاقتصاد أم السياسة؟

كتب محمد طيفوري في العربي الجديد.

أصدرت منظمة أوكسفام (اتحاد دولي لمنظمات خيرية) مطلع العام الجاري (2023)، تقريرا صادما بعنوان “البقاء للأغنى”؛ بالتزامن مع افتتاح النسخة 53 من المنتدى الاقتصادي العالمي، في منتجع دافوس السويسري، يرصد التفاوت الخطير لتوزيع الثروة في العالم، فأغنى 1% من البشر استحوذوا، خلال العامين الماضيين، على ما يقرب ثلثي الثروات الجديدة. بالأرقام، بلغ إجمالي الثروة المتراكمة، منذ 2020، ما قيمته 42 تريليون دولار، كانت حصّة الأسد فيها لأقلية من الأغنياء؛ 26 تريليون دولار (63%)، أما الأكثرية؛ أي باقي سكّان العالم، فنصيبها 16 تريليون دولار فقط (37%).
شهد العالم، أخيرا، تفاوتا حادّا في توزيع الثروة، فما يُؤتى من ثروات ضخمة تستفيد منه أقلية قليلة من البشر. وفقا للتقرير، يجني الأغنياء من الثروة العالمية الجديدة 1,7 مليون دولار مقابل كل دولار كسبه أفقر 90% من البشر. نتيجة ذلك، سجّلت ثروة هؤلاء نموّا قدره 2,7 مليار دولار يوميا، بينما تآكلت أجور ما لا يقل عن 1,8 مليار شخص بسبب التضخّم. وفي رقم بأكثر من دلالة على حجم الهوة بين القاعدة والقمّة، بشأن توزيع الثروة في العالم، كشف التقرير أن كل مائة دولار من الثروة الجديدة التي أنتجها الاقتصاد العالمي، ما بين ديسمبر/ كانون الأول 2019 وديسمبر 2021، ذهبت منها 63 دولار إلى أغنى 1% من البشر، فيما لم يكسب أفقر 90% سوى 10 دولارات.
تفضح هذه الأرقام المستوى الخطير للامساواة الاقتصادية، خلال العقود الأخيرة، في العالم، فمؤشّر إنتاج الثروة العالمية في ارتفاع مستمر، إذ تضاعفت ثروة أصحاب المليارات نحو 19 مرّة، منذ عام 1987، حيث انتقلت من 728 مليار دولار إلى أكثر من 13 تريليون دولار. مع الإشارة إلى ارتباط القفزات الكبرى لهذه الزيادة بما بعد فترة الأزمات، مثل: انفجار فقّاعة الدوت كوم عام 2000، والأزمة الاقتصادية لعام 2008، وجائحة كورونا في عام 2020. وقد سبق للصحافي الاستقصائي أنتوني لوينشتاين أن أثبت ذلك بالتحقيق في أكثر من أزمة في العالم، في مؤلفه “رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية” (2015).

ثروة أغنى أغنياء العالم تفوق الإنتاج المحلي لدول بأكملها، وتواجه دول أخرى خطر الإفلاس

يُرجّح أن تكون البشرية على موعد مع أكبر انتكاسة في معالجة الفقر، منذ الحرب العالمية الثانية، فخبراء البنك الدولي يقرّون بأن البشرية تشهد أكبر زيادة في اللامساواة والفقر العالميين، ما يهدّد بوقف التقدم العالمي المُحرز في الحدّ من هذه الآفة. إذ لأول مرة منذ 25 عاما ازداد الثراء الفاحش والفقر المدقع بشكلٍ حادّ معا، وسقط في براثن الفقر المدقع، خلال عام 2020، أكثر من 70 مليون شخص إضافي، ما يعادل زيادة قدرها 11%، ينذر ذلك كله بالفشل في تحقيق هدف إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030.
من الواضح أن عالما شديد الترابط لا يستطيع الاستمرار على هذا المسار، فثروة أغنى أغنياء العالم تفوق الإنتاج المحلي لدول بأكملها، وتواجه دول أخرى خطر الإفلاس، فقد وصل إنفاق البلدان الأشد على سداد الديون إلى الدائنين الأغنياء أربعة أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية لمواطنيها. ويضحّي الأفراد بجهدهم الشخصي، بشكل يومي (الأجر، الأتعاب …)، من أجل أساسيات العيش مثل الطعام. فيما يجني الأثرياء معظم دخلهم، من دون مجهود يُذكر، من التدفقات المالية الناشئة عن ملكية الأصول (الأراضي والممتلكات والشركات والأسهم …) والفوائد والمكاسب الناتجة عن رأس المال.
تكشف الزيادة غير العادية في ثروات الأثرياء عن فشل بنيوي في النظام الاقتصادي، فهذا الأخير يشتغل فعليا، وبشكل ممتاز، لكن لصالح أقلية من الأفراد في قمّة الهرم، تتقن فن الاستفادة من آلام الناس. يفيد التقرير بأن اللامساواة تتفجر بعد كل عملية ضخ لأموال العامة، من البنوك المركزية، دعما وتحفيزا للاقتصاد للتعافي من الأزمة (2008 و2020). فخيار التحفيز الحكومي للاقتصاد ممزوجٌ بسياساتٍ تقشّفية دفع ثمنها غالبية السكان، مع إعفاءات ضريبة مهمة لأقلية، مكَّن أصحاب المليارات من تحقيق طفرةٍ هائلةٍ، ما يسقط، في النهاية سردية، طالما تردّدت على أكثر من لسان، عن “اقتصاد يتقاطر نحو الأسفل”.

ليست اللامساواة قطعاً أمراً حتمياً، بل محض خيار سياسي، يمكن معالجته بأكثر من وسيلة، أنجعها السياسة الضريبية

عقب كل أزمة تعصف بالاقتصاد العالمي، ينبري رجال السياسة وخبراء الاقتصاد دفاعا عن سياسات اقتصادية فاشلة، تكرّس تفاوتا عميقة داخل المجتمعات، بخدمة مصالح النخب الغنية على حساب الأغلبية الساحقة، فخيار خفض الضرائب على الأغنياء والشركات مثلا من أجل تحفيز الاستثمار وإيجاد فرص شغل، أثبت فشله على أرض الواقع، بارتفاع عوائد الأثرياء بفضل مغانمهم من هذه السياسات، فـ “كل ملياردير جديد هو عنوان لفشل السياسات العامة”.
ليست اللامساواة قطعا أمرا حتميا، بل محض خيار سياسي، يمكن معالجته بأكثر من وسيلة، يبقى أنجعها السياسة الضريبية، فإقرار ضرائب تصاعدية، على الأغنياء والشركات، يصلح لمحاربة التضخّم وارتفاع الأسعار، وتجنيب الحكومات اللجوء الاضطراري إلى التقشّف. فضلا عن ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بخلق مجتمعاتٍ أكثر مساواة نتيجة التوزيع التصاعدي للثروة داخل المجتمعات. نعم، الضريبة هي الحل، لكن الحكومات وبدل الرفع من الضرائب على أقلية الأثرياء، بمعدّلات تعيد توزيعها بشكل تصاعدي، تختار سعيا وراء توليد الإيرادات الزيادة في الضرائب على الدخل أو الاستهلاك أو الخدمات أو القيمة المضافة، ما يعمّق من حجم التفاوتات الاقتصادية في العالم.
باختصار، نحن أمام صورة جديدة، لكن هذه المرّة بالأرقام، من صور فشل النظام الاقتصادي العالمي في تحقيق “الأحلام الوردية” المتداولة، على ألسن رجال السياسة عند كل موسم انتخابي، عن عالم أكثر عدلا وإنصافا وتنمية. وقبل ذلك دليل على حاجة النظام الاقتصادي العالمي الملحّة لإعادة النظر في نفسه، فالالتهام الذاتي المستمر لهذا النظام يُنذر لا محالة بإعلان إفلاسه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى