معارك غزة… هل تطول وتصير حرب استنزاف؟
حتى الآن، لم ترتقِ الحرب على غزة من المستوى التكتيكي إلى الاستراتيجي. ينطبق هذا القول على التنظيمات الفلسطينيّة، كما على الجيش الإسرائيلي. فالوصول إلى المستوى الاستراتيجي لا بد من أن يكون بعد تحقيق تراكمات ونجاحات على المستوى التكتيكي. بعدها، يتدخّل البُعد السياسي للترجمة العملية للنجاح العسكريّ. لكن البقاء في المستوى التكتيكي لفترة طويلة قد يعني حرب الاستنزاف، وفيها يربح عادة من لديه عمق لوجستي، إن كان في السلاح أو العديد.
لكن أحد أهم شروط حرب الاستنزاف، هو استعداد المجتمع لتقديم التضحية الاقتصاديّة والسياسيّة، والأهم هي التضحية البشريّة. ألم يقل المفكّر البروسي كارل فون كلوزفيتز، إن «الحرب هي السياسة لكن بوسائل أخرى»؟
قد يؤدّي النجاح التكتيكي -في بعض الأحيان- إلى تدمير أو إبادة العدو بشكل كامل. وبذلك لا تتكرّر الحرب. هكذا حصل مع ثوّار التاميل في سريلانكا، خسروا الحرب كما خسروا قضيّتهم السياسيّة. وقد يؤدّي التكتيك إلى تعب الأفرقاء المتقاتلين، وبحيث يصبح الثمن لاستمرار الحرب أكبر بكثير من الأرباح الممكن تحقيقها. عندها، يتدخّل فريق ثالث لترميم الفجوة بين المتقاتلين، ولرسم سيناريو الإخراج السياسي لوقف الحرب، فيُصوّر كل فريق نصره حسب الصورة التي يريد تقديمها إلى مجتمعه. وقد يتضمّن هذا التصوير بُعداً دينيّاً، بحيث لا يمكن النقاش فيه.
لا يندرج سيناريو التدمير الكامل والشامل (Annihilation) على الصراع العربي- الإسرائيلي، والذي خرج منذ فترة من صفة العروبة والقوميّة، وقد استمر أكثر من قرن من الزمن. فالقرب الجغرافيّ بين الفلسطينيين واليهود، كما اعتماد الفريقين معادلة الربح الصفريّة (Zero Sum Game) قد يجعل أي إخراج سياسي لاشتباك معيّن بينهما وكأنه استراحة للمحارب، وبحيث يذهب الفريقان بعدها للاستعداد للجولة العُنفيّة القادمة.
التكتيك حالياً
دخلت إسرائيل إلى قطاع غزة عسكريّاً، مع الأمل بتحقيق الأهداف السياسية التي وضعها نتنياهو. كانت الخطة العسكريّة تقول بانتهاء الحرب في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي حدّاً أقصى. لم تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر لدى الجيش الإسرائيلي.
فوجئت إسرائيل بمدى استعداد حركة «حماس» للحرب. كما تفاجأت بكميّة السلاح؛ خصوصاً المُضاد للدروع، ومن التصنيع المحلّي. لم تعتقد إسرائيل أن لدى «حماس» قطاع غزة آخر، تقريباً؛ لكن تحت الأرض.
وفوجئت إسرائيل أيضاً بأن عقيدتها العسكريّة القتالية لا تتماشى مع هذا النوع من الحروب. وإذا كان خبراء قد صنّفوا الجيش الإسرائيلي بأنه الأحدث في العالم، والأكثر ابتكاراً (Innovative) للتكتيكات الجديدة؛ خصوصاً خلال الحرب وسير المعارك، فهو حتى الآن قد أخفق في إيجاد الحلول للقضاء على «حماس».
في المقابل، اعتمدت «حماس» على فرضيّات متعدّدة الأبعاد، لحساب ردّ الفعل الإسرائيلي بعد عملية «طوفان الأقصى». فهي تعد نفسها خبيرة بالعقل السياسي الإسرائيليّ، كما العقل الأمنيّ. ومن بعض هذه الفرضيّات:
– لن تجرؤ إسرائيل على الهجوم البري الشامل على القطاع، بسبب عدد الرهائن الكبير لدى الحركة. كما أن الهجوم البرّي يتطلّب كثيراً من الفرق العسكرية، وهذه الفرق تعتمد بغالبها على الاحتياط الذين يشكلون العمود الفقري للمجتمع الإسرائيلي. وأن الحرب ستطول لأنها سوف تكون حرب مدن، ومعها ستكون خسائر الجيش الإسرائيلي كبيرة جداً، وهذا أمر غير مقبول لدى المجتمع الإسرائيلي، وبسبب الرهائن ستذهب إسرائيل إلى التفاوض من أجل صفقة ما.
لكن المفاجأة الكبرى لـ«حماس» تمثّلت في ردّ فعل الولايات المتحدة الأميركية الآني والسريع، لدعم إسرائيل بالسياسة والسلاح.
من جهة إسرائيل
ثمة نجاحات تكتيكية؛ لكن دون تراكمات تؤدّي إلى النجاح الاستراتيجي؛ خصوصاً أن الاستراتيجيّة الكبرى التي وضعها نتنياهو غير قابلة للتحقق.
– يُدمّر الجيش الإسرائيلي ما هو فوق الأرض. كما يسعى إلى تجميع الغزيين في مكان ما، وفصلهم عن مقاتلي «حماس»؛ علّه يصل إلى قيادات الحركة، أو إلى الرهائن، وشبكة الأنفاق المترابطة والمتداخلة مع الأبنية، ففي كل بيت هناك فُتحة نفق.
يسعى الجيش الإسرائيلي إلى إيجاد مخرج لتعثّره عبر التسميات لمراحل الحرب. حالياً ينتقل الجيش إلى المرحلة الثالثة التي تقوم على ما يلي: إنشاء فُقاعات إنسانيّة (Bubbles) لتجميع الغزيين بعيداً عن «حماس» مع حكم محليّ، وضمانات أمنيّة ومعيشيّة، ويسعى الجيش الإسرائيلي إلى تثبيت المنطقة العازلة على حدود القطاع بعمق كيلومتر واحد داخل القطاع، والسيطرة والبقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا، وبعدها تأمين الحريّة العملياتية العسكرية داخل القطاع عندما تدعو الحاجة.
من جهة «حماس»
– الاستمراريّة هي الأساس لدى حركة «حماس» (Survival).
– الانتقال إلى حرب العصابات ضد الجيش الإسرائيليّ. أي القتال بمجموعات صغيرة، رهط من 3 إلى 4 عناصر.
– عدم التخلّي عن الرهائن دون ضمانات تؤمّن بقاء الحركة.
– منع قيام بدائل لها في القطاع، من العائلات أو من العشائر.
– وأخيراً وليس آخراً، كسب الوقت، وإنزال أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي.
في الختام، قد يمكن القول إن المستوى التكتيكي هو الذي لا يزال مسيطراً على المعارك في قطاع غزة، ولا يبدو في الأفق أي إمكانية للخروج منه. وللخروج منه لا بد من فرضه من الخارج، أو الذهاب إلى درجة من التصعيد كبيرة جدّاً.