روسيا لن تتخلى عن اوكرانيا بدون قتال
تكشف مؤشرات خطيرة أن روسيا قد تنفذ هجوماً عسكرياً في أوكرانيا بدءاً من الشتاء المقبل. حشدت موسكو قواتها تدريجاً على طول الحدود الأوكرانية خلال الأشهر القليلة الماضية، وقد تُمهّد هذه الخطوة لعملية عسكرية تهدف إلى حل الأزمة السياسية الأوكرانية بطريقة تصبّ في مصلحة روسيا. قد يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الديبلوماسية القسرية مجدداً، لكن يبدو أن موسكو مستعدة لتنفيذ تهديداتها هذه المرة. ما لم يتم التوصل إلى اتفاق واضح، قد يتجدّد الصراع ويتوسّع بدرجة غير مسبوقة.
زادت ثقة موسكو بنفسها سياسياً واقتصادياً في الفترة الأخيرة، وربما اقتنع بوتين أيضاً بأن أوكرانيا لم تعد من أولويات الولايات المتحدة بعد إقدام واشنطن على تحويل انتباهها ومواردها إلى المنافسة التي تخوضها مع الصين. كذلك، أعلن القادة الروس أنهم سئموا من الديبلوماسية وما عادوا يتحمّلون التكامل المتزايد بين أوكرانيا والولايات المتحدة وحلف الناتو. أصبحت الظروف مُعدّة إذاً لتغيير هذه المعادلة عن طريق القوة، إلا إذا نجحت موسكو وواشنطن وكييف في التوصل إلى حل سلمي.
الديبلوماسية تصل إلى طريق مسدود
حققت روسيا انتصاراً غريباً خلال عمليتها العسكرية الهجومية في أوكرانيا بين العامين 2014 و2015، ففرضت اتفاقيات غير ملائمة لوقف إطلاق النار على كييف. كذلك، تحسّن أداء الجيش الأوكراني بدرجة ملحوظة منذ ذلك الحين، لكن تزامن هذا التطور مع تحسّن الجيش الروسي أيضاً. ولا يزال هامش التفوق الروسي كبيراً، كمياً ونوعياً. لكن لم يتحول النجاح الروسي في ساحة المعركة إلى نجاح ديبلوماسي في العام 2014 وما بعده. سُمّي الاتفاق المشتق من تلك الحرب “بروتوكول مينسك”، تيمّناً بالمدينة التي جرت فيها المفاوضات. لكن سرعان ما تبيّن أنها تسوية خاسرة لجميع الأطراف: لم تسترجع أوكرانيا سيادة أراضيها مطلقاً، وفشل الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون في إقناع روسيا بالانسحاب عن طريق العقوبات، علماً أنهم حرصوا على عدم تصعيد الصراع مع قوة نووية. كذلك، بدأ النفوذ الروسي في أوكرانيا يتراجع بوتيرة ثابتة منذ العام 2015، باستثناء الأراضي التي ضمّتها موسكو أو غَزَتها.
وقّعت أوكرانيا على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في العام 2014، فأصبحت بذلك مُلزَمة بالتنظيمات الأوروبية. إنها النتيجة التي حاولت روسيا تجنّبها منذ البداية. تابعت كييف ممارسة الضغوط للانتساب إلى حلف الناتو، وقد تعمّق تعاونها الدفاعي مع أعضاء الحلف، مع أن انضمامها إليه ليس وشيكاً. كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد ترشّح على أساس برنامج انتخابي يدعو إلى التفاوض مع موسكو، وقد حاول التواصل معها ديبلوماسياً بعد استلامه السلطة، لكنه عاد وغيّر مساره في العام 2020، فأغلق محطات التلفزة الموالية لروسيا واتخذ مواقف متشددة من المطالب الروسية. ثم وضعت إدارة زيلينسكي أوكرانيا على طريق “التكامل الأوروبي الأطلسي”: إنها العبارة التي يستعملها الديبلوماسيون الأميركيون دوماً لوصف وجهة أوكرانيا الاستراتيجية والتأكيد على ابتعاد البلد عن روسيا.
رغم تلاشي حدة القتال في شرق أوكرانيا بعد العام 2016، طغى الصراع المحتدم على غياب الاستقرار في أوروبا. تملك روسيا والولايات المتحدة نفوذاً متداخلاً في شرق أوروبا، ومن المتوقع أن يتواجه البلدان في ما تسمّيه واشنطن اليوم “منافسة استراتيجية”. لكن منذ العام 2014، لا تزال الفجوة بين خطابات واشنطن وأفعالها في أوكرانيا وأماكن أخرى عرضة للاستغلال.
على صعيد آخر، فَضَح الصراع السوري غياب الرغبة الأميركية في تنفيذ الهدف المعلن الذي يرتبط برحيل الأسد. لم تقاوم واشنطن الوجود العسكري الروسي، بل سمحت لموسكو بتوسيع نفوذها في أنحاء الشرق الأوسط. كذلك، اتضحت مشاكل كبرى في التنسيق داخل التحالف العابر للأطلسي بعد الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان والخلافات الناشئة بسبب صفقة الغواصات “أوكوس” (بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة)، فقد همّش هذا الاتفاق فرنسا وأثار غضبها. من الواضح أن واشنطن تعبت من الحروب، وتتساءل روسيا على الأرجح عن استعداد الولايات المتحدة لدعم مواقفها السياسية المؤيدة لأوكرانيا بتحركات ملموسة وجديرة بالثقة.
إذا اعتبر بوتين دعم المسؤولين الأميركيين لسيادة الأراضي الأوكرانية غير صادق (لا شيء يشير إلى عكس ذلك أصلاً)، لن يمنعه أحد من تغيير ميزان القوى في المنطقة عبر استعمال القوة. من الغباء أن يحاول الرئيس الروسي غزو أوكرانيا كلها (إنه بلد شاسع ويشمل أكثر من 40 مليون نسمة)، لكنه قد يحاول تقسيم البلد إلى جزأين أو فرض تسوية جديدة لكبح مسار أوكرانيا نحو “التكامل الأوروبي الأطلسي” والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة.
تحاول موسكو منذ فترة طويلة أن تُعدّل التسوية التي نشأت بعد الحرب الباردة. قد يظن القادة الروس أن أي حرب كبرى لن تُكثّف جهود الاحتواء، بل إنها ستدفع الجميع مع مرور الوقت إلى التناقش حول دور روسيا في الأمن الأوروبي. لطالما أرادت روسيا أن تعيد فرض النظام الإقليمي حيث تملك موسكو والغرب نفوذاً متساوياً لتحديد الوضع الأمني في أوروبا. من المستبعد أن يكون بوتين مقتنعاً بقدرته على فرض تسوية مماثلة عن طريق الإقناع أو الديبلوماسية التقليدية. قد يخيف التحرك العسكري الروسي الدول الأوروبية الكبرى ويدفعها إلى قبول اتفاق جديد مع موسكو (يظن البعض أنه تراجع إلى المرتبة الثانية في الاستراتيجية الأميركية ويرغب في إيجاد مكانة وسطية بين الصين والولايات المتحدة). لا يعني ذلك أن هذه النتيجة محتملة، لكن قد يُركّز القادة الروس على هذا الاحتمال في مطلق الأحوال.
إيـــجـــاد الاســـتـــقـــرار وســـط الـــصـــراع
يُفترض أن تستخلص الولايات المتحدة استنتاجَين من الحشد العسكري الروسي في محيط أوكرانيا. أولاً، لن تكون هذه الخطوة مجرّد استعراض قسري آخر، رغم الرسائل المختلطة التي تُوجّهها موسكو في هذا المجال. أعلن بوتين في 18 تشرين الثاني: “لقد وصلت تحذيراتنا الأخيرة إلى وجهتها وبدأت تعطي مفعولها”. قبل يوم على ذلك الموقف، نشر وزير الخارجية الروسي رسائل خاصة من فرنسا وألمانيا حول الجهود الديبلوماسية المرتبطة بأوكرانيا، وهي إهانة واضحة لشركاء روسيا في اتفاق مينسك. يجب أن تستعد واشنطن في المقام الأول لاحتمال اندلاع الحرب في العام 2022 عبر تنسيق جهودها مسبقاً مع الحلفاء الأوروبيين وتوضيح عواقب هذا التطور لموسكو. إذا تحركت الولايات المتحدة اليوم، ستتمكن من التعاون مع شركائها الأوروبيين لرفع التكاليف الاقتصادية والسياسية المترتبة على روسيا إذا قررت التحرك عسكرياً، ما قد يؤدي إلى تراجع احتمال اندلاع الحرب.
سبق وتكبدت أوكرانيا كلفة عالية نتيجة الامتناع عن إطلاق رد مُنسّق على التحركات العدائية الروسية. في العام 2014، لم توافق أوروبا على فرض العقوبات إلا بعدما أسقط انفصاليون مدعومون من روسيا طائرة ركاب مدنية في شهر تموز، وقد حصل ذلك بعد وقتٍ طويل على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وغزو إقليم “دونباس”. يجب ألا تُكرر الولايات المتحدة تلك المقاربة الكارثية والسياسات التفاعلية هذه المرة. قد ترغب واشنطن في الحفاظ على بعض الخيارات السرية، لكن يجب أن تُحدد معالم دعمها للسيادة الأوكرانية علناً، وبالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، وقبل اندلاع أي صراع عسكري واسع. تتطلب هذه الخطوة التعبير عن رغبات الغرب وخطوطه الحمراء خلال الأسابيع القليلة المقبلة. إنها أبسط شروط لمواجهة التداعيات الإنسانية والاستراتيجية لأي غزو روسي كبير.
في 18 تشرين الثاني، أعلنت وكيلة الدولة للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، أن الالتزام الأميركي بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها “مُحصّن”، وهو المصطلح المستعمل وسط الحلفاء في المعاهدة، لكن لم تُعبّر الولايات المتحدة عن أي التزامات أمنية رسمية تجاه أوكرانيا. تُذكّرنا هذه المواقف على نحو مريب بالدعم السياسي الذي حصلت عليه جورجيا في المرحلة التمهيدية للحرب التي خاضتها مع روسيا في العام 2008. من المستبعد أن يردع أحد روسيا بالطرق الديبلوماسية التي تفتقر إلى المصداقية، حتى أن موسكو ستحاول تشويه سمعة الولايات المتحدة حين تبدو الطموحات الأميركية مبالغاً فيها. يجب أن تتحرك واشنطن سريعاً، لكن يُفترض أن تحرص على عدم تضليل القيادة الأوكرانية كي لا تتوقع هذه الأخيرة دعماً لن يتبلور على أرض الواقع يوماً. وإذا لم يجد البيت الأبيض أي دور عسكري له في أوكرانيا، كما حصل في العام 2014، يُفترض أن يُبلِغ كييف بذلك صراحةً كي يتمكن قادة أوكرانيا من اتخاذ قراراتهم بعد فهم الواقع الجيوسياسي الحقيقي.
ثانياً، يجب أن يصبح الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون أكثر صدقاً في تقييمهم للأزمة الديبلوماسية التي يواجهونها راهناً، بغض النظر عن فرص اندلاع الحرب في أوكرانيا خلال الأشهر المقبلة. لا تشهد روسيا أي تراجع جيوسياسي، ومن المستبعد أن ترضخ أوكرانيا بسهولة. ولا مفر من استمرار المنافسة على النفوذ في أوكرانيا، حتى أن هذا السباق قد يزداد سوءاً بدل أن يتحسّن. لكنّ هذا الوضع لا يمنع البحث عن حل ديبلوماسي لتخفيض احتمال أن تخرج المنافسة القائمة عن السيطرة.
ستكون أوكرانيا جزءاً محورياً من ذلك الحل، ويُفترض أن تعكس أي محادثات في هذا الإطار قوة كييف. لكن كان غياب واشنطن، لا أوكرانيا، عن هذه العملية الديبلوماسية الأكثر وضوحاً. يُعتبر الصراع المستمر اليوم أهم سبب لغياب الاستقرار بين روسيا والولايات المتحدة، ويجب أن تعالج واشنطن هذه المشكلة في أسرع وقت. يصعب أن يتزامن البحث عن الاستقرار الاستراتيجي مع استمرار الصراع. لكن في ظل احتدام المنافسة بين قوتَين نوويتَين بارزتَين في العالم، لن تكون هذه المقاربة مجرّد تَرَف أو سراب، بل إنها ضرورة قصوى.