أبرزرأي

حدود مسئولية الغرب عن سباق التسلح العالمى وتداعياته على الأمن الدولى

كتب عمرو حمزاوي في صحيفة الشروق.

إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسى العالمى، نستطيع أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعترى علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها ومواطناتها جوهرها إما اختلال متعدد المستويات لعقد اجتماعى متوازن تبلور واستقر بمراحل سابقة أو استمرار لغيابه فى ظل صراعات متواترة تعصف بأسس العيش المجتمعى المشترك.
• • •
ديمقراطيات أمريكا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعى وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاث هى التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعانى اليوم من اختلالات حقيقية تعمق من آثارها الأزمة الاقتصادية العالمية وتطال دور الدولة وحدود مسئولياتها فى إدارة اقتصاد السوق والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والأفراد.
فقد أخذت الهوة الفاصلة بين دخول الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة فى الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغير النظم الضريبية لصالح الأغنياء لتصل إلى معدلات غير مسبوقة. وفقا لإحصائيات عام ٢٠٢٢، يستحوذ ما لا يزيد على ١٠ بالمائة من الأمريكيين على أكثر من ٧٠ بالمائة من ثروة المجتمع تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (٩٠ بالمائة) من الفقراء والشرائح محدودة ومتوسطة الدخل.
هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة ٣٠ بالمائة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التى تشهدها الولايات المتحدة فى ظل تراجع دور الدولة وتوحش اقتصاد السوق. وقناعتى أن القوة العظمى، وسياسات أوباما خلال الأشهر الأولى تذهب فى هذا الاتجاه، لن تخرج من أزمتها الاقتصادية إلا بإعادة شىء من دور الدولة إلى السوق وإلى المجتمع شىء من العدالة التوزيعية بين الأغنياء والفقراء.
• • •
إذا ما استثنينا النماذج الراقية للعدالة الاجتماعية فى الدول الإسكندنافية، يتشابه التطور المعاصر لمجتمعات غرب أوروبا مع الخبرة الأمريكية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعى وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتى دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر (١٩٧٩ ــ ١٩٩٠) واتسع نطاقها تدريجيًا ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار، أخلت بتوازن المجتمعات الأوروبية وأفقدت النخب الشىء الكثير من شرعية القبول الشعبى.
خلال العقدين الماضيين وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركيز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمق من الفوارق الطبقية وقلص من المساحة التى تشغلها الشرائح متوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية. على سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالى السكان بألمانيا من ٦٢ بالمائة عام ٢٠٠٠ إلى ٥٠ بالمائة عام ٢٠٢٢ وتجاوزت نسبة من يهددهم الفقر ١٢ بالمائة، بل بلغت الأخيرة ببريطانيا ١٧ بالمائة وبإيطاليا ١٨ بالمائة. ومع أن الحكومات الأوروبية وعلى نقيض الخبرة الأمريكية لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهرى فى الحريات المدنية والسياسية ارتبط أمريكيا بممارسات إداراتى بوش ٢٠٠٠ ــ ٢٠٠٨، إلا أنها أضحت هى الأخرى تعانى من أزمة شرعية يسهم فى تكريسها إن فضائح فساد متتالية أو تحالفات عضوية بين السياسة والمال أو غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أى البرامجية) بين قوى اليمين واليسار يرتب عزوف المواطنات والمواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها.
وما التنامى اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف، وجميعها مرشح للتصاعد فى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، سوى تعبير عن الاختلال المستمر فى العقد الاجتماعى الضابط لعلاقة الدولة بالمجتمع والأفراد وعجز الدول الأوروبية عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقيا.
• • •
إن كانت هذه هى وضعية الديمقراطيات الغنية بالغرب اليوم وهى تواجه الأزمة الاقتصادية الأعمق منذ كساد ثلاثينيات القرن الماضى والأزمات الاجتماعية والسياسية الكثيرة التى تحيط بها، فكيف سيكون حالها خلال السنوات القادمة وهى تتورط فى سباقات تسلح منفلتة ومحفوفة بالمخاطر؟ فقط أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية سباقا لتوريد السلاح إلى الأراضى الأوكرانية وسباقا للضغط على الدول الأوروبية لتوريد السلاح للجيش الأوكرانى يهدد السلم والأمن العالميين ويدفعهما إلى حافة هاوية غير مسبوقة منذ عقود طويلة. وصمت الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا وآسيا والمحيط الهادى عن عسكرة الصراعات الإقليمية وتفجر الحروب فى الشرق الأوسط والسودان وغرب إفريقيا ومناطق أخرى ينذر بعواقب إنسانية ومجتمعية وبيئية وخيمة.
يحدث كل هذا، بينما يتملص الجانبان الأمريكى والأوروبى من التزاماتهما المالية للتعامل مع التغير المناخى وتداعياته شمالا وجنوبا. يحدث هذا، ونحن فى معية أخطار كبيرة تحيط بالغرب من الداخل مع صعود اليمين المتطرف وأخطار العنف المحدقة بمجتمعات أمريكا الشمالية وأوروبا. يحدث هذا، ونحن نشاهد تبلور توافقات جديدة بين النخب الغربية لا تمانع معها من استخدام الأدوات العسكرية لتثبيت نفوذها فى مناطق مختلفة ولمواجهة صعود الصين عالميا ولا تعارض أيضا معها تواصل الحروب والنزاعات الإقليمية الدامية فى أقاليم عديدة. وليس حال الشرق الأوسط وحال السودان عنا بغائب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى