رأي

تساؤلات جدّية عن الانتخابات الرئاسية التونسية

كتب سالم لبيض, في العربي الجديد:

ستة أشهر فقط تفصل الرأي العام في تونس وخارجها عن الانتخابات الرئاسية، إنْ هي انتظمت في آجالها الدستورية في شهر سبتمبر/ أيلول أو أكتوبر/ تشرين الأول المقبليْن. لا يزال الحديث عن هذه الانتخابات بمقدار، ويكاد يكون من التابوهات، على عكس ما اعتاد عليه التونسيون في كل الانتخابات الرئاسية بعد قيام الثورة التونسية سنة 2011، فقد كانت الحملات الانتخابية التمهيدية تنطلق مبكّرا قبل سنة أو أكثر، وتستمرّ حتى لحظة الصمت الانتخابي، في مناخ عام سمته الرئيسية الحرية والحقّ في الترشّح من دون قيدٍ من أي كان ولأي سبب. فتُعلن الألوان السياسية والأيديولوجية بكل وضوح وشفافية من دون مواربة أو تقية، وتتبارى مكوّنات المجتمع السياسي التونسي بتنوّعها وتعدّدها، من يساريين ودستوريين وإسلاميين وقوميين عرب وغير المنتمين ممن يرفضون التحزّب والتأدلج، حتى بلغ عدد المترشّحين لمنصب الرئيس 27 سنة 2014 و26 سنة 2019. لم تكن مجرّد انتخابات، وإنما كانت مهرجانات سياسية كبرى تتناظر فيها الأحزاب والتنظيمات، وتشهد وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ديناميكية لا تعرفها في سائر الليالي والأيام، ويبدأ كل مترشّح في تعريف جمهور الناخبين بسيرته السياسية وبرامجه المجتمعية ووعوده الانتخابية وخصاله الأدبية وكفاءاته العملية وميزاته الأخلاقية، التي قد تمكّنه من أن يكون على رأس الدولة التونسية، فتزدهر أسواق سبر الآراء واستطلاع الرأي العام وقياسه، وتتجلّى مواقف الجمهور الواسع من المترشّحين، فيعرفهم الناس، ويعلم كلّ منهم مكانته وحاضنته الشعبية التي تأويه والطبقات الاجتماعية الداعمة له وحظوظه في أن يكون رئيساً للبلاد، أو أن يصبح مجرّد رقم يضاف إلى سجلّات الإحصائيات الانتخابية.

فروق غير جوهرية بين ما تضمّنه دستور سعيّد من ضوابط وما أتى به دستور سنة 2014 من شروط الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية

نظريا، اليوم، لا موانع تحول دون الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفقا للشروط المحددة في دستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) لسنة 2022 الذي خطّه الرئيس قيّس سعيد بيمينه، وقد حدّدها الفصل عدد 89 بالقول “الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية حقّ لكلّ تونسي وتونسية غير حامل لجنسية أخرى مولود لأب وأم، وجدّ لأب، وجدّ لأم تونسيين، وكلّهم تونسيون دون انقطاع. ويجب أن يكون المترشّح أو المترشّحة، يوم تقديم ترشّحه بالغا من العمر أربعين سنة على الأقلّ ومتمتعا بجميع حقوقه المدنية والسياسية”. وأضاف الدستور في الفصل عدد 90 “ينتخب رئيس الجمهورية لمدّة خمسة أعوام انتخابا عاما حرّا مباشرا سريا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من المدّة الرئاسية وبالأغلبية المطلقة للأصوات المصرّح بها. يشترط أن يزكّي المترشّح أو المترشّحة عدد من أعضاء المجالس النيابية المنتخبة أو من الناخبين وفق ما يضبطه القانون الانتخابي. وفي صورة عدم حصول أي من المترشّحين على الأغلبية المطلقة في الدورة الأولى، تنظّم دورة ثانية خلال الأسبوعين التاليين للإعلان عن النتائج النهائية للدورة الأولى، ويتقدّم للدورة الثانية المترشّحان المحرزان على أكثر عدد من الأصوات في الدورة الأولى”. 
هناك فروق غير جوهرية بين ما تضمنه دستور سعيّد من ضوابط وما أتى به دستور سنة 2014 من شروط الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية، على غرار الاكتفاء بأن يكون المترشّح تونسي الجنسية منذ الولادة فقط وليس مولودا لأبوين وجدّين جميعهم من التونسيين. وأن يكون المترشّح قد بلغ الأربعين بدلا من سنّ 35 عاما، وأن لا يكون مزدوج الجنسية حتى وإن تنازل عنها بعد فوزه. مقابل ذلك، توجد فروق جوهرية بين النصّين، فحواها صلاحيات الرئيس التي باتت مطلقة ولا حدود لها في الدستور الجديد، بينما كانت محدودة وشرفية في الدستور السابق، ما يجعل من الإصلاح السياسي والاقتصادي والمجتمعي ككل غير متاح ألبتّة، إلا من بوابة الوصول إلى كرسي الرئاسة. بما في ذلك إصلاح الأعطاب الدستورية القاتلة للحياة الديمقراطية، التي أسّست لسلطة رئاسية مطلقة، نزعت سلطة المؤسّسة التشريعية وحوّلتها إلى مجرّد وظيفة يتولاها كيان صوري يأتمر بأوامر الرئيس وحكومته، سرعان ما أخذت منحى استبداديا، لا تقبل المتابعة والمساءلة والمحاسبة في أثناء ممارسة الرئيس مهامّه، وبعد انتهائها، وفق ما جاء به الفصل 110 من دستور 2022 “يتمتّع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة وتُعلّق في حقه كافة آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه”.

القانون الانتخابي لسنة 2014 المتعلّق بالاستفتاء والانتخابات في جزئه حول الانتخابات الرئاسية لا يزال على حاله

ويبدو أن القانون الانتخابي لسنة 2014 المتعلّق بالاستفتاء والانتخابات في جزئه حول الانتخابات الرئاسية لا يزال على حاله، بما يلائم دستور الرئيس قيّس سعيّد، محافظا على سنّ الترشّح في حدود 35 سنة، ومشترطا حمل الجنسية التونسية منذ الولادة فقط، وأحقية مزدوجي الجنسية في خوض الاستحقاق الانتخابي. كما لا تزال بعض الجوانب الشكلية، على أهميتها، كما وردت في الفصل 41 من القانون الانتخابي من دون تغيير، وقد جاء فيه “تتم تزكية المترشّح للانتخابات الرئاسية من عشرة نواب من مجلس نواب الشعب، أو من أربعين من رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبة أو من عشرة آلاف من الناخبين المرسمين والموزعين على الأقل على عشرة دوائر انتخابية على ألا يقلّ عددهم عن خمسمائة ناخب بكلّ دائرة منها”. 
ويثير هذا الأمر أسئلة جديّة بشأن مدى ملاءمة مضامين هذا الفصل للواقع، مثل عدم وجود مجالس للجماعات المحلية مجسّدة في المجالس البلدية بعدما حلّ الرئيس سعيّد البلديات قبل أكثر من سنة، وهل تنطبق صفة المجالس المحلية على الهيئات المنتخبة حديثا لتصعيد مجلس وطني للجهات والأقاليم، من دون صدور قانون يحدّد صفتها وطبيعتها وصلاحياتها ومهامها؟ وإلى أي مدىً يمكنها التزكية في الوقت الذي يتحدّث فيه الدستور عن المجالس النيابية المنتخبة؟ وهل يمكن للمجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي سيتشكّل عن طريق القرعة أن يحمل صفة مجلس نيابي منتخب، حتى يحقّ لأعضائه تزكية المترشّحين للرئاسة؟ تساؤلات أخرى لا تقلّ أهمية توجِب الإيضاح، مثل طبيعة الدوائر الانتخابية التي سيعتمدها المترشّحون للرئاسة في جمع التزكيات مباشرة من الناخبين، ما إذا كانت دوائر جهوية كما كان الأمر في انتخابات 2014 و2019 أم ستكون دوائر فردية على مستوى المعتمديات (الانتخابات التشريعية 17 ديسمبر/ كانون الأول 2022)، أو دوائر صغرى على العمادات (الانتخابات المحلية 24 ديسمبر 2024)، وهل يمتلك أعضاء كل من مجلس نواب الشعب (البرلمان) والمجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة الثانية) الشرعية الانتخابية التي تمكنهم من تزكية المترشحين للرئاسة والحال أنهم منتخبون بنسبة متدنية قياسية، لم تتجاوز 11% من الجسم الانتخابي التونسي، وهو ما يفقدهم المشروعية الشعبية؟

يتوجّه الرئيس سعيّد بخطابه إلى معارضيه، ولسان حاله يقول لهم إن فوز أحدكم بالرئاسة نوع من أحلام اليقظة

عمليا، أكّد الرئيس قيّس سعيد يوم 12 من شهر فبراير/ شباط الجاري في أثناء استقباله رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات فاروق بوعسكر، أن الانتخابات الرئاسية ستتم في موعدها، لكنه لم يتحدّث عن موعد محدد. وفي اللقاء نفسه، قال إن من دعوا إلى مقاطعة انتخابات أعضاء مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم يعدّون العدّة بكلّ الوسائل للموعد الانتخابي، مضيفا “لأن لا همّ لهم سوى رئاسة الدولة متناسين ماضيهم القريب والبعيد الذي لم ينسه الشعب”، ووصفهم بأنهم “مواصلون في أحلام اليقظة والنوم في الاجتماعات المعلنة والسرّية، متناسين أن المسؤولية مهما كانت درجتها هي ابتلاء ووزر ثقيل وليست كرسيا أو جاها زائفا كما يحلمون”. 
من الواضح أن الرئيس سعيّد كان يتوجّه بخطابه إلى معارضيه، ولسان حاله يقول لهم إن فوز أحدكم بالرئاسة نوع من أحلام اليقظة، وهذا الخيار هو مواصلة لما كان قد صرّح به على هامش زيارته ضريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في ذكرى وفاته يوم 6 إبريل/ نيسان 2023 إنه “ليس مستعدا لأن يسلّم الوطن لمن لا وطنية له”. وهذا الصنف من الخطاب الصادر عن رأس الدولة التونسية ينزع الثقة عن الانتخابات الرئاسية، ويقلّل من قيمتها، ويفقدها المصداقية، ويحول دون ديمقراطيتها وشفافيتها، ويساعد على مقاطعتها، ولا ينتج إلا مزيدا من تأزيم الوضع العام والانسداد السياسي المتفاقم في تونس من جرّاء حالة الاستثناء التي عاشتها البلاد منذ 25 يوليو/ تموز 2021 وما تلاها من تأسيس لنظام سياسي رئاسوي، حال دون تحقيق أي نهوض اقتصادي، ومن تراجع للحرّيات العامة والفردية وتخلّ عن المكتسبات الديمقراطية، ومن شكّ في إمكانية الحفاظ على مكسب التداول السلمي على السلطة، كأهم غنيمة غنمها التونسيون والعرب أجمعين من الثورة التونسية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى