بوتين يجدّد سعيه إلى تأبيد حكمه روسيا
كتب عمر كوش في العربي الجديد.
لم يكن أحد من المراقبين والمهتمين بالشأن الروسي في حاجةٍ إلى انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية، التي أجريت في 15 مارس/ آذار الجاري وانتهت في الـ17 منه، كي يعرف من سيفوز بها، فقد ذهبت معظم التكهّنات إلى أن نتائجها معروفة سلفاً، حتى بالنسبة إلى ملايين الروس، حيث لم يكن أحدٌ منهم يتوقع ألا يفوز بها الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، وذلك في ظل عدم مواجهته منافسة حقيقية فيها، لأنه سبق وأن تخلّص من خصومه ومن منافسيه، وعمل على إبعاد كلّ من اعتقد أنه يشكل تهديداً لتربّعه على كرسي الرئاسة الروسية، الذي جلس عليه منذ العام 1999.
بالفعل، جاءت نتائج الانتخابات كي تؤكّد تلك التكهنات، ويصبح بوتين رئيساً لروسيا الاتحادية في ولايته الخامسة، حيث حصل على أكثر من 87% من نسبة أصوات المشاركين، فيما اقتربت نسبة المشاركة من 80%. وتُعيد نسبة فوزه إلى الأذهان النسب التي اعتاد رؤساء جمهورياتنا العربية الفوز بها في انتخاباتهم الصورية. وقُوبل فوز بوتين بتشكيكٍ كبير من المعارضة الروسية، التي اعتبرت الانتخابات غير نزيهة، ولا تتمتع بالشفافية، كونها جرت في ظل عدم وجود لجان مراقبة محايدة، وباستبعاد اللجنة المركزية العليا للانتخابات ترشيحات شخصيات من المعارضة.
خاض بوتين هذه الانتخابات بعدما سمحت له التعديلات الدستورية، التي أُقرّت عام 2020، بالترشّح لولايتين رئاسيتين إضافيتين (مدة كل منهما ست سنوات)، وبما يمكنه من الاستمرار نظرياً في الرئاسة الروسية حتى العام 2036، في إطار سعيه إلى تأبيد حكمه روسيا الاتحادية، فيما تخوّله الولاية الرئاسية الخامسة الاستمرار في الرئاسة إلى عام 2030، وبما يمكنه من استكمال إعادة هيكلة بنية النظام السياسي في روسيا، لضمان استمرار نهجه الأيديولوجي والسياسي وترسيخه، ومواصلة المزيد من إجراءات التضييق لهامش المعارضة، التي تراجع دورها وتأثيرها في السنوات الماضية، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
لم تختلف الانتخابات عن متوالية الانتخابات الرئاسية الروسية التي لم يواجه فيها بوتين أي منافسة حقيقية
وجاءت الانتخابات بعد مرور أكثر من عامين على الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وشكلت ظروف الحرب مناسبة لتنفيذ مزيد من القمع للمعارضة الروسية، حيث جرى اتخاذ جملة إجراءات استثنائية، صبّت جميعها في سياق تأبيد البوتينية، بوصفها نهجاً سياسياً وأيديولوجياً وضع أسسه بوتين، وفق توليفة لنظام حكمه أطول فترة ممكنة في روسيا.
لم تختلف الانتخابات عن متوالية الانتخابات الرئاسية الروسية التي لم يواجه فيها بوتين أي منافسة حقيقية، باستثناء انتخابات عام 2000، التي فاز فيها بنسبة 53.4% مقابل حصول منافسه الرئيسي في تلك الانتخابات، غينادي زيوغانوف، على 29.4%. واقتصرت المنافسة فيها على ثلاثة مرشّحين آخرين في مواجهة الرئيس بوتين، لكنهم في الواقع لا يمثلون أحزاب المعارضة، بل أحزاباً موالية للكرملين، فيما استبعدت اللجنة المركزية العليا للانتخابات في روسيا طلبات ترشيح كل الشخصيات المناهضة للغرو الروسي لأوكرانيا. إضافة إلى أن المعارضة الروسية تلقت ضربة كبيرة بعد الوفاة الغامضة لزعيم المعارضة، أليكسي نافالني، في منتصف فبراير/ شباط الماضي في معسكر عقابي في القطب الشمالي، حيث كان يقضي حكماً بالسجن 19 عاماً، واعتبرت المعارضة وفاته بمثابة تصفية له، وأنها جاءت في سياق تصفياتٍ أخرى لشخصياتٍ معارضةٍ للرئيس بوتين خلال السنوات الماضية.
لم يقدم بوتين في حملته الانتخابية برنامجاً انتخابياً معيناً، بل رفع شعاراً تعهّد فيه بالعمل على تأمين حياة طويلة ونشيطة للمواطنين الروس
لم يقدم بوتين في حملته الانتخابية برنامجاً انتخابياً معيناً، بل رفع شعاراً تعهّد فيه بالعمل على تأمين حياة طويلة ونشيطة للمواطنين الروس، من خلال زيادة متوسّط الأعمار في روسيا، ورفعه من 73 عاماً إلى 78 عاماً. إضافة إلى تعهّده بتحسّن مستويات معيشة الروس، والإعلان عن خطط للسنوات الست المقبلة، فيما تفيد تقديرات مراكز متخصّصة بأن وعوده ستكلف الخزينة الروسية أكثر من 130 مليار دولار، وقد لا تسمح ظروف روسيا الاقتصادية بتحقيق ذلك. نظراً إلى تكاليف الحرب على أوكرانيا، والعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليها. في المقابل، أوْلى بوتين أهمية قصوى للحرب على أوكرانيا، واعتمد على خطابٍ معادٍ للغرب، متهماً إياه بالتخطيط لهجماتٍ على الأراضي الروسية، وراح يلوّح بإمكانية نشوب حربٍ نوويةٍ، إضافة إلى تهديده بإمكانية نشوب حربٍ عالميةٍ ثالثة.
تؤكّد هذه الانتخابات الرئاسية مضيّ النظام السياسي الروسي في لعبته المقوننة، التي يسمح فيها بإتاحة بعض الهوامش، في إطار ما تسمّى “الديمقراطية السيادية”، “المسيرّة” أو “الموجّهة”، كي يعيد إنتاج نفسه بنفسه، عبر مشهدياتٍ صورية لانتخاباتٍ، تطاول انتخابات المناطق والأقاليم، وانتخابات البرلمان، وانتخابات الرئاسة، التي ينظمها جميعاً وفق نسق يسعى إلى مقاس تأبيد حكم زعيمه الأوحد، لذلك تدخل الانتخابات في سياق عملية تمرير النظام طقوس انتخابية، سعى فيها بوتين إلى المحافظة عليها منذ وصوله السلطة، وقام بتوزيع الأدوار على جميع الأحزاب والنقابات والجمعيات، وفرض عليها قيوداً، أعاقت نشاطات وفعاليات أحزاب وحركات المعارضة، التي اضطرت إلى التكيف معها، الأمر الذي أسهم في إضعافها، فضلاً عن عدم تمكّنها من تشكيل جبهة قوية ضده.
اعتبر النظام السياسي الروسي أي حراك سياسي أو اجتماعي يهدف إلى التعبير عن مطالب الناس وتطلعاتهم، خروجاً عن المألوف
في المقابل، اعتبر النظام السياسي الروسي أي حراك سياسي أو اجتماعي يهدف إلى التعبير عن مطالب الناس وتطلعاتهم، خروجاً عن المألوف والمطلوب في إطاعة سلطاته، وبمثابة تمرّد على مقامه ورموزه ونكران لجميله وعطاءاته. وذهب، في غالب الأحيان، إلى اعتبار الحراك المعارض، أو المناهض للحرب على أوكرانيا، خيانة عظمى للأمة الروسية، تستوجب الاغتيال والاعتقال والملاحقة. لذلك لم يتردّد في سحق أي حراكٍ سلمي بالقوة والعنف المفرط. فيما رمى رموز المعارضة في معسكرات سيبيريا والقطب الشمالي ومعتقلاتهما، ولفّق تهماً شتى لهم، وبتصفية بعضهم، عبر الاغتيال أو التسميم، مثلما فعل مع المعارض المعروف أليكسي نافالني، الذي تعرّض للتسميم بمادة “كيميائية غير معروفة”، ثم انتهى أمرُه بالإعلان عن وفاته في السجن قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية.
غير أن التجارب التاريخية تظهر أن الأنظمة الشمولية، ومعها سائر الأنظمة غير الديمقراطية، يمكن أن تنهار بسرعة في مواجهة الحركات الشعبية. ومن المرجّح أن يكون للوضع المعيشي والقرارات التي اتّخذها بوتين وإدارته الحرب في أوكرانيا تأثيرات غير متوقّعة على الروس، وبما يمكنها توليد مزيد من السخط في المدى المنظور، والدفع باتجاه تنامي الحركات الرافضة لاستمرار الحرب على أوكرانيا، وما تثيرُه من إرهاصاتٍ على حياة الروس، وربما تنعكس بشكل حراك احتجاجي على سياسات الكرملين، أو تظهر انشقاقات أو تمرّداً على غرار التمرّد الذي قاده زعيم مرتزقة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، الذي كان يُعرف بقربه الشديد من بوتين، ولم يمنعه ذلك من قيادة تمرّد عسكري واسع، والإيعاز إلى مرتزقته بالزحف باتجاه موسكو، وكاد أن يُحدث زلزالاً داخل روسيا.