
كتب فرانسيس غيلس في صحيفة العرب.
كان رئيس الدولة الفرنسي الأكثر مراوغة منذ الحرب العالمية الثانية بارعا في إخفاء تورطه المبكر مع اليمين المتطرف.
لا يزال الموقع الرسمي للرئاسة الفرنسية، الإليزيه، يزعم أن أطول رؤساء فرنسا خدمة (1981 – 1995) كان “داعما قويا لإنهاء الاستعمار” خلال فترة عمله وزيرا لأقاليم ما وراء البحار الفرنسية بين عامي 1950 و1951. وبعد تأسيس الجمهورية الخامسة في 1958، أكد فرانسوا ميتران مرارا أنه دعّم الإصلاحات في مستعمرات فرنسا الأفريقية خلال الجمهورية الرابعة (1945 – 1958)، وهي فترة كان فيها جزءا من الحكومات المتعاقبة أكثر من المعارضة.
ثم أُعيدت تسميته زعيما لليسار في الستينات، وقدّم نفسه مدافعا قويا عن دول العالم الثالث، كما كان يُعرف الجنوب العالمي آنذاك. واستمر هو ثم أنصاره، حتى بعد ثلاثين عاما من وفاته سنة 1995، في التأكيد على أن مناهضة الاستعمار كانت موقفه السياسي الطبيعي. لكن هذا الادعاء كاذب. ويكشف كتاب باسكال بلانشارد ونيكولا بانسيل خداع رجل أطلق عليه أقرانه لقب “فرانسوا الفلورنسي”.
كان رئيس الدولة الفرنسي الأكثر مراوغة منذ الحرب العالمية الثانية بارعا في إخفاء تورطه المبكر مع اليمين المتطرف قبل 1939، وعلاقاته بحكومة فيشي المتعاونة خلال السنوات الأولى للاحتلال الألماني (1940 – 1942)، وإيمانه الراسخ بضرورة احتفاظ فرنسا بنفوذها المهيمن في مستعمراتها الأفريقية السابقة ومحمياتها بعد استقلالها في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات.
وُضعت مصداقيته اليسارية بعد 1958 موضع الاختبار في أواخر الثمانينات خلال محاولات الإصلاح الاقتصادي في الجزائر في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وقد رفض ميتران دعمها (وهو حدث لم يتناوله هذا الكتاب) والأهم من ذلك خلال الإبادة الجماعية في رواندا في التسعينات.
ويعود تواطؤ فرنسا في تلك الإبادة الجماعية مباشرة إلى ميتران، وقد وُثِّقت هذه الإبادة في كتب عديدة وتقرير كلّف الرئيس إيمانويل ماكرون كبار المؤرخين بإعداده، واختُتم في 2021. وتبع ماكرون التقرير بخطاب في عاصمة رواندا، مُقرّا بمسؤولية فرنسا.
وساهم العديد من المؤرخين والصحافيين المرموقين في كتاب يفضح أساليب ميتران الماكيافيلية التي أثَّر من خلالها على العديد من زملائه السياسيين والإعلاميين الفرنسيين، راسما صورة لنفسه كإنساني يُولي اهتماما بالغا لأفريقيا والمستعمرات العربية الفرنسية السابقة.
وبتبييض قناعاته الاستعمارية، والعفو عن أعضاء منظمة الجيش السري اليمينية المتطرفة الذين سعوا إلى عرقلة سياسة الرئيس شارل ديغول بمنح الجزائر استقلالها في 1962 بعد حرب ضارية استمرت ثماني سنوات، وإخفاء عنف القمع الفرنسي في مدغشقر أواخر الأربعينات، ثم في الكاميرون والجزائر بعد عقد، ساهم ميتران في تعزيز حالة من فقدان الذاكرة الجماعية في السياسة الفرنسية. ولا يزال الكثيرون في هذا الفضاء يصرون على مهمة فرنسا الحضارية خلال حقبتها الاستعمارية.
وكان موقف ميتران من الإمبراطورية موازيا لموقف الفيلسوف ورجل الدولة في القرن التاسع عشر، ألكسيس دو توكفيل، الذي اعتقد أن فرنسا في حاجة إلى “إبراز مجدها في أفريقيا” بعد سقوط نابليون في 1915 وقرار مؤتمر فيينا بتقييد النفوذ الفرنسي في أوروبا.
ونشأ ميتران في الريف الغربي الفرنسي الكاثوليكي المحافظ، وأيّد غزو موسوليني لإثيوبيا في 1935. وأصبح بعد ذلك “مصلحا حذرا للإمبراطورية”، مفضلا الحفاظ على الأراضي المستعمرة، خاصة في أفريقيا.
ورجّح الإصلاح على القمع، لكن القمع يكون مُبررا عندما تُهدد “عظمة الإمبراطورية”. واستمر حتى أواخر الستينات في القول بأن الاستعمار وغزو “الشعوب البربرية” كان مُبررا، لأن فرنسا والغرب جلبا “الحضارة” إلى أفريقيا، وهي وجهة نظر شاعت بين معاصريه ولا يزال اليمين الفرنسي يرددها. وفشل ميتران تماما في استيعاب صعود القومية في أفريقيا والعالم العربي بعد 1945.
ديغول قاوم تطلعات الشعوب المُستعمَرة، لكنه غيّر مساره بعد توليه الرئاسة في 1958، مانحا الجزائر استقلالها في نهاية المطاف
كما رفض القوميات في أفريقيا وشمال أفريقيا، وخاصة القومية الجزائرية، ووصفها بأنها “بدائية وخارج أي سياق تاريخي.”
وبالنسبة إليه، كان السعي نحو الاستقلال بعد 1945 “مشكلة مصطنعة” خارجة عن أيّ سياق تاريخي، ووليدة طموحات بعض القادة الأفارقة أو العرب. وكان يعتقد أن القومية الأفريقية محكوم عليها بالزوال.
وقاوم ديغول أيضا تطلعات الشعوب المُستعمَرة، لكنه غيّر مساره بعد توليه الرئاسة في 1958، مانحا الجزائر استقلالها في نهاية المطاف.
واستمر ميتران في انتقاده. لكن التاريخ اعترف بكون ديغول رجل دولة عظيم كان يتمتع بفهم إستراتيجي واضح للتاريخ، بينما يُذكر ميتران بصفته رئيسا أساء فهم محاولات الإصلاح الجزائرية بين عامي 1988 و1992 وأزمة رواندا التي تلت ذلك بسنوات. كما عارض استقلال تونس في أوائل الخمسينات، مُجادلا بأن التونسيين لا يستطيعون حكم أنفسهم. وكانت رؤيته للإسلام، كما وصفها الأكاديمي الفرنسي جان بيير فيليو، عتيقة ومُشبعة بطابع استعماري.
كان ميتران وزيرا للداخلية عند اندلاع حرب الاستقلال الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954. وكان يؤمن إيمانا راسخا بأن الشعب الجزائري لا يحمل أيّ طموحات وطنية. وخلال اجتماع عُقد في الخامس من نوفمبر بوزارة الداخلية في باريس، وصف أصحاب هذه المطالب بالعناصر المعادية التي تستدعي الإدانة والتهميش والقضاء عليها.
ولم يفهم ميتران سياسة بريطانيا المتمثلة في نقل السلطة تدريجيا إلى النخب الأفريقية المحلية مع الحفاظ على النفوذ. كما برز استخفافه خلال فترة توليه منصب وزير العدل بين عامي 1955 و1956، عندما رفض العفو عن 45 قوميا جزائريا أُعدموا بالمقصلة. وكان انشقاقه عن زملائه السياسيين اليساريين أمثال آلان سافاري وميشيل روكار وبيير منديس فرانس (استقال منديس فرانس من حكومة غي موليه احتجاجا على عمليات القتل خارج نطاق القضاء في الجزائر) متجذرا في خلاف جوهري حول استقلال الجزائر والقمع القاسي الذي تغاضى عنه ميتران وبرّره باستمرار.
وأظهر ميتران على نطاق أوسع افتقارا تاما للفهم التاريخي في ما يتعلق بشمال أفريقيا. وكتب قبل شهرين من تولي ديغول السلطة في مايو 1958 أن “الحل الشيوعي الذي أملته الإمبريالية الروسية غير مقبول. التخلي عن الجزائر سيكون جريمة.” وتمكن لاحقا من إعادة كتابة تاريخه السياسي، لكن الوثائق لا تكذب.
وبفضل براعته في إخفاء ماضيه، تمكنت الأحزاب اليسارية، التي قبلت إلى حد كبير مهمة فرنسا الاستعمارية وغضت الطرف عن التعذيب في الجزائر، من تجنب مواجهة الاعتراف بما حدث. لكن هذا جعلها غير قادرة على تحدي خطاب اليمين المتطرف الذي انتشر منذ ذلك الحين في الساحة السياسية الفرنسية، بما في ذلك الوسط.
ولا تزال هذه القوى تنكر انتهاكات فرنسا الاستعمارية واستغلالها الاقتصادي وقمعها العنيف.
واستمرت سياسة دعم القادة الأفارقة الفاسدين (المعروفة باسم “فرانس أفريك”، والتي بدأت في عهد ديغول في 1958) في عهد ميتران.
وهذا يفسر تواطؤ فرنسا الكارثي في الإبادة الجماعية في رواندا وفقدانها مؤخرا لنفوذها ووجودها العسكري في منطقة الساحل.
ويبقى إرث ميتران في هذا الصدد مدمرا للغاية. فمنحه العفو عن الضباط الذين اعتمدوا الإرهاب للحفاظ على السيطرة الفرنسية في الجزائر، والذين حاولوا اغتيال ديغول عدة مرات، وتشجيعه على إحياء ذكرى من دافعوا عن مهمة فرنسا الحضارية، مكّن ميتران من صعود الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، المعروفة الآن باسم التجمع الوطني. ويعدّ إرثه السياسي الداخلي لذلك سامّا.
وأقرّ إيمانويل ماكرون بدور الدولة الفرنسية في العديد من حالات الاختفاء والقتل، بما يتجاوز المسلمين الأصليين ويشمل الفرنسيين الداعمين لحرب تحرير الجزائر. لكنه لا يزال مقيدا بإرث ميتران والجهات الفاعلة السياسية والإعلامية والمؤسسية النافذة، بما في ذلك معهد فرانسوا ميتران المكرس للحفاظ على صورة الرئيس السابق.
وتواصل هذه الجهات إنكار مدى العنف الاستعماري وانتهاكات القانون الدولي، على الرغم من وفرة الأدلة في المئات من الكتب الحديثة والمحفوظات العامة التي يمكن للجمهور أن يطّلع عليها.
ويضم كتاب “فرانسوا ميتران، الإمبراطور الأخير – من الاستعمار إلى فرانس أفريك” مساهمات من اثنين وأربعين مؤرخا وصحافيا، بمن فيهم بلانشارد وبانسيل. ويُعدّ أساسيا لفهم فرنسا الحديثة وظلال ماضيها الحديث الذي سيظل يطاردها خلال السنوات القادمة.