رأي

الهند ومقاربتها في الاستقلال الاستراتيجي

كتب د. عبدالله أحمد آل علي في صحيفة الخليج.

تعدّ الهند نموذجاً واقعياً في مقاربتها للاستقلال الاستراتيجي، وهو مبدأ يمكّنها من تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على استقلاليتها في اتخاذ القرارات الاستراتيجية والانخراط في شراكات دولية تخدم مصالحها الوطنية.
وتعتبر العلاقات الهندية الأمريكية مثالاً حياً لهذه الاستراتيجية، فقد تمكّنت نيودلهي من تعزيز علاقتها بواشنطن من دون التضحية بسيادتها واستقلالية قرارها السياسي.ورغم أن هذا التقارب يعزز المصالح المشتركة بين البلدين، فإن الهند تظل حذرة من الانخراط الكامل في سياسات الولايات المتحدة، ساعيةً للحفاظ على هامش من الاستقلالية.
تعود جذور هذا النهج إلى فترة ما بعد الاستقلال الهندي في 1947، حيث تبنّت الهند سياسة عدم الانحياز بقيادة جواهر لال نهرو. كانت تلك السياسة وسيلة للهند لتجنب الانحياز لأيٍّ من الكتل الكبرى خلال الحرب الباردة، وهو نهج استمر حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
الوثائق التاريخية تُظهر أن الهند، حتى مع تعميق علاقاتها مع الولايات المتحدة، احتفظت بقدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة في العديد من القضايا، مثل علاقاتها مع روسيا والصين.
شهدت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة تطوراً كبيراً خلال العقدين الأخيرين، خصوصاً في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والتجارة. على سبيل المثال، كما أن توقيع اتفاقية «اللوجستيات الدفاعية» في 2016 عزز التعاون العسكري بين البلدين. لكن الهند كانت حريصة على ألا يؤثر هذا التعاون في استقلالها الاستراتيجي.
ورغم انخراطها في مبادرات مثل «الحوار الأمني الرباعي» (QUAD) مع الولايات المتحدة، وأستراليا، واليابان، لم تسعَ الهند لتحويل هذا التعاون إلى تحالف عسكري ملزم، تحقيقاً لهذه الاستقلالية الاستراتيجية في تعامل الهند مع الصين.
ورغم التوترات المتصاعدة بين البلدين، خاصة في وادي غالوان عام 2020، تجنبت الهند الانزلاق نحو مواجهة عسكرية مدعومة من الولايات المتحدة، بل اعتمدت على الدبلوماسية، وحشدت التأييد الدولي لاحتواء النفوذ الصيني، ما يعكس قدرتها على تحقيق توازن بين تحالفاتها مع الولايات المتحدة وبين التعامل مع قوى إقليمية أخرى مثل الصين وروسيا.
إلى جانب ذلك، تحتفظ الهند بعلاقات وثيقة مع روسيا، وهي شريك استراتيجي تقليدي منذ الحرب الباردة. وعلى الرغم من ضغوط الولايات المتحدة، استمرت الهند في شراء المعدات العسكرية الروسية، مثل نظام الدفاع الجوي «إس-400». هذه الخطوة تعدّ دليلاً قوياً على حرص الهند على تنويع مصادر تسليحها والتمسك باستقلالية قرارها، من دون الخضوع لضغوط أو تأثيرات خارجية.
كما أن الهند تسعى لتحقيق استقلاليتها في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد، فهي تعمل على تطوير قدراتها الذاتية في مجالات مثل الفضاء والذكاء الاصطناعي، لضمان عدم التبعية لدول أخرى. على سبيل المثال، نجاح الهند في إطلاق مهمات فضائية مستقلة مثل «تشاندرايان» لاستكشاف القمر، و«مانجاليان» لاستكشاف المريخ يعكس طموحاتها لتصبح قوة تكنولوجية عظمى، من دون الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة أو غيرها.
وفي الجانب الاقتصادي، ورغم تنامي العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 119.42 مليار دولار، طبقاً لبيانات وزارة التجارة الهندية، تسعى الهند لتعزيز شراكاتها مع دول أخرى مثل اليابان والاتحاد الأوروبي، ما يضمن عدم التبعية لأي قوة اقتصادية كبرى، ويعزز استقلالها الاقتصادي.
خلاصة القول، نجحت الهند عبر مقاربتها للاستقلال الاستراتيجي في بناء علاقات متينة ومتوازنة مع الولايات المتحدة من دون التضحية بسيادتها، عبر اعتمادها على تحالفات مرنة وتوازن دقيق بين القوى الكبرى، استطاعت الهند الحفاظ على حرية الحركة في السياسة الدولية، وتعزيز مكانتها كقوة عظمى ناشئة، قادرة على تحقيق مصالحها الوطنية، من دون الوقوع في فخ الظل لأي طرف.
إن هذه المقاربة الاستراتيجية الواقعية تحفّز بعض الدول الناشئة في المنطقة بأخذ اليسير من هذا النموذج الناجح والمتوازن الذي يحقق المصالح الوطنية لكافة الأطراف المتوافقة مع هذا المسار الحكيم.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى