القاضي طارق البيطار شخصية العام 2021 في لبنان
تحمل العاصمة بيروت آثار زلزال انفجار 4 آب في تفاصيلها. جروح النفوس والأجساد لم تُشفَ. لسنا بخير. عبارة يردّدها كل من طاولته شظايا الانفجار، المادية والمعنوية. نردّدها جميعنا.
في العام 2021، راجت كلمة “الحقيقة” في يوميات اللبنانيين. وكانت كثرة الترداد تضمر شيئاً من الحدس بـ”استحالة” تحقيق عدالة ومعاقبة قاتل ومجرم. هذا ما يخبرنا به تاريخ مديد من الانتهاكات في لبنان. مع ذلك، لم يملّ أهالي الضحايا من التحرك، عرفتهم أرصفة الشوارع قبالة المرفأ ومجلس النواب ومنازل الوزراء والقضاة. لم يجف دمعهم. بقوا حصناً منيعاً لذاكرة تنهكها مآسي الانهيار اليومية. دمعة أم الممرضة اليافعة جيسيكا بازدجيان التي خطفها الموت في مستشفى القديس جاورجيوس. انهيار الأم مراراً أمام العدسات على نواصي شوارع التحركات. مثابرة عباس مظلوم على كرسيه المتحرك، للتواجد مع جمع الأهالي والجرحى ورفع الصوت. رفعه حتى الرمق الأخير حين انطفأ مودّعاً الدنيا الظالمة وموصياً بأولاده. هو الذي عمل طاهياً مجتهداً في أحد مطاعم الأشرفية من أجلهم. ليست قصة 218 ضحية وآلاف الجرحى والمهجرين والمتضررين فقط. إنها سردية تروما جماعية ودمار هائل قد تقوى العدالة على ترميم شيء منه ومن العلاقة مع لبنان.
وسط هذه المعادلة الأخلاقية، برز اسم #طارق البيطار (47 سنة) محققاً عدلياً خاض ويخوض اشتباكاً عميقاً مع تركيبة النظام التي جعلت من القضاء مسرحاً للتدخلات السياسية على مرّ عقود. نجح في هزّ “بروفيل” علاقة السياسي بالقضائي. أضاء على هامش ممكن “للشغل” في المؤسسات، وسط الزبائنية الفاقعة التي تحكم النظام. قراراته التي وصلت حدّ إصدار مذكرات توقيف بحق أشخاص مثّلوا خامة النظام العنيد وواجهته في السنوات الماضية، بدّلت معالم “الحرب الباردة” التي اتسمت بها بداية التحقيق، واستدعت تصعيداً سياسياً إعلامياً غير مسبوق ضدّه، لاسيما في المساحات والنبرة التي حكمت تناول شخص الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مسألة التحقيق واتهام القاضي “العنيد” بالتسييس والاستنسابية وما رافقها من مآلات نسج رواية المؤامرة والاستهداف في عقول الأتباع ونفوسهم. وإن انتقل التصعيد الكلامي الى الشارع، كنّا أمام تداعيات أعادت مشهد الحرب الأهلية وضحاياها. سقط دمٌ كثير، وبات الصراع الأهلي على محور الطيونة-عين الرمانة عنواناً متقدماً على جروح ضحايا المرفأ. ولم ينجح هذا الانفجار الأمني المدوّي في إسقاط التحقيق.
شُلّ العمل الحكومي بعد تقليعة ضعيفة لحكومة نجيب ميقاتي. باتت الحكومة رهن التحقيق ومصيره. سُجِلت 18 دعوى كفّ يدّ في حق القاضي البيطار، ولا يزال يملك النفَس الطويل للانتظار. المهم أن يصدر القرار الظنّي المرتقب وألا تطول مدة كفّ اليد الراهنة، والتي أبقته حبيس منزله، مرفقة بالظروف الأمنية والتهديدات.
يُقال إن البيطار “يملك اليوم 90 في المئة من الحقيقة” في ملفه. ومن التحقيق ما شمَل الشق الخارجي المتعلق بهوية الآتين بسفينة الموت الى #مرفأ بيروت وأهدافهم، الى شق الاهمال الاداري الذي خطف الأنظار وفجّر القضية على مستوى الدولة والنظام. ويشمل الملف أدلة وبراهين تنتظر طريقها الى القرار الظني. ورغم العراقيل التي يشهدها التحقيق، فان المدى الزمني لا يزال في إطار المعقول، علماً أن تحقيقاً شبيهاً في فرنسا استغرق نحو 7 سنوات، وكانت السلطات السياسية مسهلة لقرارات القضاء، بخلاف ما يحصل في تحقيق المرفأ، حيث تتواتر شكاوى حتى من بطء بعض الديبلوماسيين في تسهيل معاملات تُرسل اليهم من القضاء ومتابعتها، وهي تتعلق بالشق الخارجي للتحقيق.
كرة نار
القاضي الذي عُرف عنه سرعة إصدار أحكامه وإنهاء ملفاته، تسلّم كرة نار يعرف مدى اتساعها مع الزمن. في المرة الأولى التي عُرض عليه الملف، تردّد قبل حلّ مسألة الحصانات، وبعد “انسحاب” القاضي فادي صوان، وجد نفسه في شباط الماضي مرة جديدة في واجهة المهمة، علماً أن أوساطاً مطلعة تؤكد عدم معرفته المسبقة بوزيرة العدل حينذاك ماري-كلود نجم، وعدم صحة وجود علاقة وثيقة تربطه بالوزير السابق سليم جريصاتي. اللقاء بين الرجلين يقول عارفون إنه جرى خلال زيارة بروتوكولية عادية.
عُرف عن البيطار عدم إقفال بابه إلا في وجه المراجعات والتدخلات، ومؤاثرته الابتعاد عن الاعلام. في تجربته على مر سنوات، ما يُستنتج منه أن هناك حاجة للناس الأكفاء في كل مؤسسة حتى في نظام المحاصصة الزبائني الطائفي الذي يلعب دوراً بالتأكيد في تفشيل الكفاءات.
ابن عيدمون العكارية نشأ في بيئة “اجتماعية قومية سورية” قبل أن تبدّل الأيام والأحداث اللبنانية في مطلع الشباب ميوله الفكرية وتجعله يعتنق أفكار الدولة العلمانية الحديثة المبنية على فقه المؤسسات وانتظامها بعيداً من أحزاب وزعماء ومحاور، فلكل زمن فكر، سيّما أن الظروف السياسية والموضوعية شوّهت الكثير من العقائد. وبقيَ فصل الدين عن الدولة، بوصلة هذا الكاثوليكي المؤمن.
تولّى ابن فايز البيطار في بدايات مسيرته مهام قاض منفرد جزائي في طرابلس (2004 – 2010) ومنها انطلق الى النيابة العامة الاستئنافية في الشمال. واشتدّ عود التجربة في التعامل مع قضايا إساءة الأمانة والجرائم المالية، وقد دخل المحكمة متسلّماً نحو 4000 قضية عالقة من سلفه، وسلّم المحكمة بعد ست سنوات 500 ملف الى خلفه. ما يلفت في سيرة هذا القاضي، حرصه على إظهار ما ينجز من ضمن المؤسسة. هكذا رفع تقريراً الى التفتيش القضائي بعمله. وهو ما يجد إصلاحيون أن على كل قاض فعله. وفي ذلك طموح مشروع للتقدم من ضمن المؤسسات.
الى فترة تولي طارق البيطار مهام المحامي العام الاستئنافي في الشمال، وهو مركز حساس يحتاج الى سرعة بديهة وصلابة لجهة التعامل مع التدخلات. بقي في المركز نحو 7 سنوات، وابتعد عن اللقاءات الاجتماعية، ولم يقبل بالتراجع عن قرار، لذا كان أصحاب المراجعات من سياسيين وذوي نفوذ يعرفون أنه لا بد من توجيه الضغط الى من هو أعلى في سعيهم لتسطير إشارة معاكسة على ملف ما.
في محكمة الجنايات ببيروت (2017)، واجه قضايا كبيرة هزّت الرأي العام كمقتل جورج الريف، فحكَم على الجاني طارق يتيم بالاعدام في غضون شهرين، مستنداً الى عنصر الشراسة في القتل.
وكذلك حكم على قاتل طبيب في الروشة بالاعدام، واستغرق ملف مقتل الشاب روي حاموش نحو 8 أشهر. الى قضية الطفلة ايلا طنوس التي حُرمت طرفاها، وما أثار حكمه بتهمة الخطأ الطبي من جدل في الجسم الطبي حين وُصف بالمتشدّد.
وفي تلك الحقبة، عمل على رفع عقوبة الاتجار بالمخدرات من 5 سنوات الى 15 سنة سجنية، في حين مارس اجتهاداً قانونياً بدّل في النظرة الى طريقة عقاب متعاطي المخدرات وكانوا غالباً من شبان وطلاب وأصحاب مهن في مقتبل العمر غُرّر بهم أو وقعوا في نزوات. هكذا باتت العقوبة تلامس أحياناً كثيرة الثلاثة أشهر ولا تستوي الى مقارنتهم أو مساواتهم مع تجار المخدرات. وفي الحرب مع هؤلاء وما يملكون من عصابات إجرامية، كان لا بدّ من الاحتفاظ بأعصاب باردة، فالغضب والفورة قد يصنعان الفشل، وقوة التحمل أساسية في مركز القاضي، والتجربة تصنع المراس على هذا الطبع.
السردية المضادة وشيفرة الاتهامات
وهل أكثر من ملف انفجار المرفأ حاجة الى الصلابة وبرودة الأعصاب؟ يبدو الطبع متأصلاً، ويبرز تصميم القاضي حتى اللحظة على إصدار قرار ظني قوي مفنّد يجيب عن كل التساؤلات والاتهامات. وبالطبع، تعيق دعاوى كف اليد سير العمل، والخوف من امتداد فترتها.
السردية المضادة والهجوم الشرس على عمل البيطار عملا بشكل كبير على تغيير قناعات وشيطنته في نظر شريحة من اللبنانيين غالبيتهم ممن يتأثرون بخطاب القوى السياسية المناهضة لتحقيقه. وقد ارتكز خطابها على اتهامه بالتسييس وبالاستنسابية في الاتهامات والاستدعاءات، وبأنه لم يقرب من رئيس الجمهورية الذي كان يعلم، ولا من قائد الجيش الذي تملك مؤسسته يداً طولى في المرفأ، ولا من القضاة ولا من رؤساء حكومة سبقوا حسان دياب في المهام. لا بل إنه ركز على فريق سياسي معيّن، وفق اتهام معارضيه.
بقيت هذه السردية متقدمة في الهجوم، ولا يسمح القانون بالافراج عن جزء من التحقيق، ولا يملك القضاء حتى الآن رؤية للتعاطي مع الاعلام والرأي العام، فيبقى مبدأ التحفظ سائداً، باستثناء قضايا وملفات حصلت تسريبات لغايات سياسية فيها. في الشكل المؤسساتي، يُترك القضاة عراة أحياناً أمام ما يتعرضون له ولا يتاح لهم الدفاع عن أنفسهم في فترة التحقيق، أو مقارعة الحجج التي يواجَهون بها، علماً أن للرأي العام تأثيراً على عمل القاضي، ما يبرّر ورشة قانونية في القضاء للتعاطي بحرفية مع المسألة الاعلامية في القضايا الكبيرة كتحقيق المرفأ.
تحتاج لائحة الاتهامات ضد البيطار الى تفكيك الشيفرة، علماً أن محاكمة رئيس الجمهورية تقع على عاتق المجلس النيابي، وفق الدستور، أو اتهامه. ولم يعطِ الرؤساء والوزراء المعنيون الأذونات باستدعاء أو ملاحقة قادة أجهزة أمنية. ولم يذهب المعني بمساءلة القضاة الى الأخير في مسألة مَن علِم بالباخرة وأذِن برسوّها في المرفأ ولم يلاحِق ملف إبعادها وخطرها من الشاطىء اللبناني.
وجرى توقيف عدد من العناصر الأمنيين ومنهم برتب من الجيش، ووُجه السؤال مراراً عبر الاعلام الى البيطار من مهاجميه عن تحييده قائد الجيش بما يمثله من سلطة معنوية، وجرى الربط بين انحيازه وحبه للمؤسسة العسكرية وما تمثله في الكيان وبين الأمر. وترددت معلومات أن القاضي لم يتثبت من علم قائد الجيش جوزف عون بوجود النيترات بخلاف المراسلات والكتب المثبتة في حالات مسؤولين آخرين. وتحتاج فرضية معاكسة الى الغوص في التحقيق. ويبدو أن القاضي يركز جزءاً من عمله على مبدأ التمييز بين مَن علِم ومن يملك صلاحية الفعل، وبين من علِم ومن لا يملك الصلاحية. فأن يعلم وزير التربية بوجود النيترات لا يوضع في خانة علم وزير الداخلية أو وزير الأشغال بالأمر. ولاحقت البيطار تهمة الاستنسابية في اتهام رؤساء الحكومات وتركيزه على حسان دياب الذي رفضت أجهزة أمنية تنفيذ المذكرة في حقه. ووجد القاضي في حالة دياب مراسلة دامغة في شأن النيترات، ويبدو أن دليلاً مماثلاً يغيب في حالة رؤساء حكومة آخرين حتى الآن.
ويرى مراقبون عن كثب لسير ملف التحقيق أن القاضي يعمل من أجل قرار ظني “من دون أي غلطة”، ويُنقل عن القاضي البيطار عبارة “سأقول الحقيقة”.
الرجل يعرف جيّداً أن القضية التي تسلمّها قد تكون الأخيرة في حياته المهنية، وأنه سيدفع ثمنها، على هدي أن العسكر يذهب الى المعركة من دون أن يعرف أنه عائد.
حتى الساعة، ورغم كفّ يده مجدداً، تظهر الوقائع أن البيطار لن يتخلى عن القضية، وتتردد معلومات حول إمكانية الافراج عن عدد من الموقوفين في السنة الجديدة.
العام 2021 رسّخ طارق البيطار شخصية جدلية بما مثّله من حالة اشتباك استثنائية مع النظام السائد منذ عقود، وبتأثير مجرى تحقيقه على يوميات المشهد السياسي والأمني.
في العام 2022، العين على قرار ظني يوضح أسباب المأساة المروعة ويسمي ويتهم ويعاقب المسؤولين عنها، ويجيب عن أسئلة المعارضين ومن يتهمون القاضي بالتسييس ويخوضون جزءاً من معركتهم بالقانون. ليست المهمة بالسهلة. قد يحصل الأمر وقد لا يحصل. قد تتناسل دعاوى كف اليد وينهش الزمن التحقيق، وقد ترتسم معالم تسوية سياسية يدفع التحقيق ثمنها. الأكيد أن كلّ ما يمكن أن يحصل ويشلّ أو يوقف التحقيق سيكون من خارج صلاحيات طارق البيطار وإمكاناته. صاحب الأعصاب الباردة سيبقى قابضاً على الجمر في دولة ضائعة حتى الإفراج عن العدالة.