الحق والقوة بين مدرسة كيسنجر وتراث المقاومة

كتب د. عبدالله سهر في صحيفة الراي
هل الحق يصنع القوة أم القوة هي التي تصنع الحق؟ هذا السؤال يمثل الجدلية الكبرى في نظرية العلاقات الدولية ومسار السياسة العالمية في آن واحد.
هنرى كيسنجر، أشهر وزير خارجية أميركي ومن أكثر المختصين في العلاقات الدولية وذاع صيته بسبب آرائه الجريئة وانتمائه لجامعة هارفرد العريقة وهويته الأميركية اليهودية، قد طاف على هذا السؤال مراراً كممتهن للسياسة وكمختص بعلمها.
حسب ما ينقله بنفسه في أحد احاديثه بعدما خرج من المنصب كان يقول بأنه كان يطرح نظرياته في شأن أهمية القوة ولكنه لم يشعر بها إلا بعد ان أصبح وزير خارجية لاقوى دولة في العالم حيث كان يمارسها فعلياً.
بالنسبة لكيسنجر، القوة الحقيقية هي الحق. وبهذا التعريف الموجز لا يخرج عن عبارة ميكافيللي الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة». القوة بالنسبة له هي الغاية التي تسعى لها الدول ويبذل الأفراد جهوداً حثيثة للحصول عليها، والقوة هي التي تحدد مستوى المصلحة التي يجب أن تحصل عليها، وبعيداً عن القيم الاخلاقية فالقوة هي التي تحدد علاقاتك مع الآخرين، هكذا يفكر كيسنجر، وهكذا أسس قواعد مدرسته ممن تولى السياسة الخارجية بعده.
أعتقد بأن هذا المنطق سليم بل قد يكون فطرياً خصوصاً في قانون الغابة، بيد أن الاختلاف بين البشر يتمثل في معنى القوة والمصلحة، كما هم مختلفون بينهم فيما هو حق أو ليس كذلك.
بالنسبة لهنري كيسنجر ومدرسته التي ثبتت معالمها في السياسة الخارجية الأميركية، القوة هي بدعم الكيان الصهيوني والمصلحة هي بالابقاء عليه في خاصرة العرب والمسلمين، وكل ما يتم في هذا السبيل هو حق! لذلك فلا غرابة بأن لا يجد معظم السياسيين في الكونغرس أو في البيت الابيض أي غضاضة في القتل والتشريد والاستيلاء والظلم الذي ترتكبه عصابات الكيان الصهيوني ضد العرب والفلسطينيين.
نحن كمسلمين وكعرب يجب أن ندرك هذا المنطق ولكن بصورة مختلفة. إن الحق بالنسبة للتعاليم الاسلامية هو ما يحق لك ولغيرك على السواء، وبالنسبة لنا ايضاً ووفقاً للتراث العربي والاسلامي القويم بأن المصلحة الحقيقية هي بالمتاجرة مع الله وليس مع البشر فحسب، لذلك فإن القوة ليست بمعايير البشر فقط وإنما بالايمان بأن الحق هو الذي يصنع الحق.
هذا المنطق ليس حاضراً في مدرسة كيسنجر ولا في تركتها السياسية التي هيمنت على السواد الاعظم من السياسيين الأميركيين سواء كانوا من حزب الكوكا كولا (الجمهوريين) أو البيبسي كولا (الديموقراطيين)، لذلك فهؤلاء حتى الآن لا يمكن أن يدركوا بأن المقاومة الفلسطينية ستنتصر في نهاية المطاف كغيرها من المقاومات التي حدثت ضد المحتل النازي لفرنسا والمحتل البريطاني لأميركا والمحتل الأميركي والشيوعي لافغانستان والمحتل الايطالي لليبيا والمحتل الفرنسي للجزائر والمحتل الياباني للصين، وغيرها من مظاهر متعددة.
بالمنطق الكيسنجري لا يمكن لنتنياهو، كما كان لسابقيه من الطغاة، أن يتصور بأن قوته التي مكنته من هدم المدارس والمستشفيات والجوامع والكنائس وبيوت المدنيين وقتلت الاطفال والنساء والرجال، هي قوة واهية لن تصنع له حقاً ولن تحقق له مصلحة، بل ستكون وبالاً عليه حيث ينصر الله فئة قليلة على فئة كبيرة، وهذا ما هو متحقق في الواقع ولو كره الصهاينة. كما ذهب أرنولد توينبي، في تفسيره التاريخ ومن خلال قانون التحدي والاستجابة فإن للتاريخ سنناً ذات احكام وقواعد تستجيب للمتحدي الذي ينطلق من نفسية الإنسان الذي يستطيع ان يكسر القيود الخارجية. لذلك لم يجد إنذار كيسنجر للصهاينة في عام 2012، حينما قال بأن اسرائيل ستنتهي في عام 2022، في حال استمرت المقاومة للقوة الغربية بالمنطقة، فبالرغم من كل المحاولات الصهيونية لكسرها وتحجيمها عبر الفتن والتضليل والاستهداف والبطش فالمقاومة مستمرة وفي حالة صعود إلى أن يستجيب القدر.