الحضارة الإنسانية والذكاء الاصطناعي في القرن 21.
كتب مصلح الحارثي في صحيفة عكاظ.
شارف الربع الأول من القرن الحادي والعشرين على الانتهاء، مُحمّلاً المجتمع الدولي بالعديد من التحولات والتساؤلات والآفاق الجديدة والمثيرة، حول الحدود المستقبلية للحضارة الإنسانية؛ بعد ثورة الذكاء الاصطناعي في العديد من القطاعات، الأمنية والبيئية والصحية والاقتصادية والبحثية والتعليمية والثقافية والاجتماعية، وغيرها من التطبيقات الجديدة ذات البيانات الضخمة.
فهل يقف المجتمع الدولي عند حقبة زمنية جديدة محيّرة غيّرت نمط حياة الإنسان. كثير من التساؤلات والتوقعات أوصلت خبراء التقنية إلى الذهول فضلاً عن مستخدميها في ظل التقدم السريع للتقنية في شتى المجالات. حتى غدت تقنيات الذكاء الاصطناعي بديلاً منافساً تحاكي الذكاء البشري، وتحقق العديد من الإنجازات المذهلة في العديد من المجالات. فعلى سبيل المثال؛ تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال التعلّم العميق (Deep Learning)، الذي يعتمد على استخدام الشبكات العصبية الاصطناعية متعددة الطبقات التي يتم تدريبها على البيانات لتحقيق أداء متفوق في المهام المعقدة لفهم ومعالجة البيانات بطرق تحاكي تفكيرالإنسان. لقد شهد هذا المجال تقدماً هائلاً في السنوات الأخيرة، وأصبح من أهم التقنيات في مجال الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات. مما أسهم في بناء العديد من التطبيقات الحديثة منها تقنية التعرف على الصور وتصنيفها، ومعالجة اللغة الطبيعية لتحليل اللغة البشرية، وترجمة النصوص واستخراج المعلومات، والتحكم الذكي القادر على اتخاذ قرارات ذكية، كقيادة السيارات الذاتية وعالم الروبوتات، وتقنية تقديم التوصيات والتصنيفات الدقيقة لمنتجات التسوق الإلكتروني، والتحليل الاجتماعي لفهم سلوك المستخدمين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل محتوى المنشورات والمشاركات الإلكترونية، والروبوتات الصوتية، وغيرها.
بعد تلك الاستكشافات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات التي أدهشت العالم وخبراء وروّاد التقنية أصبح من المؤكد علمياً وعملياً اليوم منافسة نماذج الروبوتات البشرية الأولى القدرات البشرية في عدة قطاعات، كالطب والمحاماة والمحاسبة والتجارة الإلكترونية وغيرها.
إلا أنه صاحب هذه الثورة التقنية العديد من الاستفهامات المتتالية بين روّاد وخبراء ومستخدمي التقنية، تتمثل في مستقبل الحضارة الإنسانية، وهل مستقبل عالمنا بأكمله سيصبح افتراضياً بعد ثورة الذكاء الاصطناعي.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي لعب دوراً بارزاً في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، التي حددتها الأمم المتحدة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030. فمن جهود المملكة العربية السعودية لتحقيق الأهداف العالمية في التنمية المستدامة ٢٠٣٠ صدور أمر ملكي عام 1440هـ بإنشاء «الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي»، التي أصبحت مرجعاً وطنياً للبيانات والذكاء الاصطناعي. كما تم إطلاق مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في سبتمبر عام 2022، بعد أن تبنّت المملكة توصيات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي اعتمدتها منظمة «اليونيسكو» في نوفمبر 2021 بمشاركة 193 دولة.
ففي ٢٥ يوليو ٢٠٢٣، عززت المملكة دورها الريادي على الساحة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي، بعد موافقة مجلس الوزراء السعودي على إنشاء «المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي».
عندها شهد العالم تبوؤ المملكة المركز الأول عالمياً في مؤشر الإستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، والذي هو أحد مؤشرات التصنيف العالمي للذكاء الاصطناعي الصادر عن «Tortoise Intelligence» الذي يقيس أكثر من 60 دولة في العالم. إن هذه النقلات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي جعلت المملكة تتبوأ مكانة متميزة في المؤشرات العالمية، وشريكاً ومركزاً علمياً لأبحاث البيانات والذكاء الاصطناعي، يواكب مُستهدفات رؤية السعودية 2030.
إلا أن سرعة تنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، وكثرة التحديات الأخلاقية والاجتماعية المصاحبة، وذهول خبراء التقنية والمجتمع الدولي حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي ومستقبل الحضارة الإنسانية يُحتّم على المجتمع الدولي بأكمله تعاوناً وثيقاً لمواصلة تكثيف الجهود لتطوير وتحسين البيئة التشريعية في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي، لسد الفراغات التشريعية الحالية والمرتقبة؛ من خلال إنشاء إطار قانوني مشترك يحقق التوازن بين أخلاقيات ثورة التقنية وأخلاقيات الحضارة الإنسانية، ترسم فيه خارطة طريق لرواد التقنية ومستخدميها في عدد من الجوانب الفنية، لتنظم سلوك الاستخدام في إطار أخلاقي آمن، يحقق المزيد من الرقي للحضارة الإنسانية، والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، ويضمن عدم انتهاك حقوق الإنسان والقيم المشتركة بين الأمم.