الحرب ومراكز النفوذ في اليمن.
كتبت بشرى المقطري في العربي الجديد.
تُنتج السُلطة مراكز نفوذها الخاصة وطبقاتها المهيمنة، إذ تنشأ جرّاء عملية تراكمية من إدارتها شبكة ولاءاتها وتحالفاتها المحلية، بحيث تترسّخ العلاقة البينية في إطار تبادل المصالح التي تتأتّى من أشكال الدعم السياسي الذي تقدّمه مراكز النفوذ للسلطة إلى تقاسم عوائد الأنشطة الاقتصادية والتجارية. وإذا كانت تجارب السلطة في اليمن، سواءً في الشمال أو في الجنوب، قد أنتجت مراكز نفوذ متعدّدة، قبلية وجهوية، احتكرت امتيازات السلطة، فإن التحوّلات التي شهدها اليمن، طوال العقود الأخيرة، غيّرت إلى حد كبير خريطة النفوذ التاريخية، وسماتها أيضاً، وكذلك نطاقاتها الجغرافية، إذ صعدت مراكز نفوذ جديدة من أطراف الحرب والطبقات الاجتماعية والاقتصادية المتكسبة التي تدور على هامشها، وتتغذى على قنواتها إلى جانب مراكز النفوذ المتحولة التي ضمنت موقعها في سلطات الحرب وشبكاتها.
فكّكت الحرب البنى الاجتماعية والسياسية، وكذلك الاقتصادية، المستقرّة، كما فتّتت مركز السلطة التاريخي، ممثلاً بنظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، كثقل سياسي واجتماعي واقتصادي مهيْمن، بحيث أزاحت مراكز النفوذ القديمة بطبقاتها ونخبها وقلّصت امتيازاتها، كما أن صعود أطراف الحرب، وتحوّلها إلى سلطات أمر واقع، جعلها تحتكر مصادر القوة بحيث أصبحت مراكز نفوذ صاعدة، أسفر عنه تشتيت السلطة، وكذلك نقل ثقلها وامتيازاتها من المركز إلى نطاقاتٍ جغرافيةٍ واجتماعية جديدة، وانتج ذلك خريطة نفوذ تشكّل أطراف الحرب مركزها، كما تولد من أشكال الديناميكيات وتبادل المنافع بين سلطات الحرب وشبكة تحالفاتها تصعيد متنفذين جُدد، إلى جانب استراتيجية المتدخّلين التي عملت من خلال دعمها الاقتصادي والسياسي إلى تصعيد قوى نفوذ موالية لها، ومن ثم في مقابل تقويض نظام الرئيس صالح وفقدان مراكز النفوذ القديمة موقعها التاريخي كقوى تحتكر امتيازات السلطة، تعدّدت مراكز القوى النافذة في الحرب التي سعت إلى وراثة أدوات صالح، وتحديدا الاقتصادية، من التنافس على الامتيازات التجارية والمالية وعقود الاستيراد والتصدير، وإن استطاع قطاعٌ واسعٌ من مراكز نفوذ صالح إعادة توطين مصالحه في سلطات الحرب.
ومع أن تشكل مراكز النفوذ عموماً يعكس تشوّهات السلطة وفسادها، حيث توظف السلطة لصالح طبقةٍ موالية، وتحرم المجتمع من التمتّع بموارده، فإن هناك فصلا، في نظام صالح، ما بين مراكز النفوذ، والسلطة، بحيث ظلّ يديرها صالح كقوى ظلٍّ، أي في قنواتٍ خلفية، إلا أن من الصعب الفصل بين سلطات الحرب بوصفها مراكز نفوذ وطبقاتها أيضا، حيث تشكّل كلا واحدا، إضافة إلى أن تجيير سلطات الحرب لكل أدوات السلطة لتنمية امتيازاتها وطبقاتها جعلها تُراكم مواردها والاستئثار بها، مستفيدة من حالة الانقسام السياسي والاقتصادي، إلى جانب اعتمادها على اقتصاد الحرب، وعلى التدفّقات غير المشروعة التي مكّنتها من مأسسة مراكز نفوذها. وفي حين تختلف خريطة النفوذ التي كرّستها الحرب، وسماتها وكذلك نطاقاتها الجغرافية تبعا لهوية السلطة المسيطرة وكيفية إدارتها شبكة تحالفاتها والهامش الذي تتيحه لإمكانية توليد مراكز نفوذ، سواء في إطارها أو خارجها، فإنه يغلب عليها، كونها طارئة، أي تعتاش على استمرارية الحرب، ومصادرها وامتيازاتها.
يعيد الاقتصاد المنفلت في الحرب رسم خريطة مراكز النفوذ الصاعدة، على اختلاف هوياتها السياسية، ويتحوّل السياسي، ممثلاً بسلطات الحرب، إلى قوى رئيسية في شبكة النفوذ، تديرها وتنتج أقطابا أخرى عبر تحالفاتها المحلية، ففي المناطق المحرّرة، يتفاعل التشظّي السياسي، على مستوى السلطة، في توليد اقطاب متعدّدة لمراكز النفوذ، تختلف من نطاق جغرافي إلى آخر تبعاً للسلطة المحلية والقوى الاجتماعية التي تمثلها والامتيازات التي تمنحها لشبكة تحالفاتها، إلى جانب المتغيرات التي انتجتها الحرب والتي تتقاطع مع سقوط الدولة، والسلطة المركزية، والذي أدّى إلى أن تقتسم وظائفها القوى المهيمنة على الأرض، التي احتكرت إدارة العمليات الاقتصادية ضمن نطاقاتها المحلية لصالحها ولصالح الطبقات الموالية لها، ما أدّى إلى نشوء مراكز نفوذ متعدّدة، إضافة إلى قوى النفوذ الوافدة من العاصمة صنعاء، وإن انحصرت في المناطق التي تُهيمن فيها قوى متحالفة مع نظام صالح، فضلا عن مراكز النفوذ المحلية القديمة التي استطاعت حماية مكاسبها، سواء بتغيير ولائها السياسي، أو ترتيب شكلٍ ما من العلائقية مع قوى نافذة توفّر لها الحماية السياسية.
السلطة الأحادية لجماعة الحوثي جعلتها تُحكم قبضتها على القنوات التي تساهم في تشكيل أي مراكز نفوذ محتملة على المدى البعيد
من جهة ثانية، لم يُغيّر شكل السلطة من الشرعية سابقاً إلى المجلس الرئاسي حالياً، وإن أعاد توزيع مراكز القوى داخل المجلس، من مراكز نفوذها في نطاقاتها الجغرافية، بل أتاح لها السيطرة على قنواتٍ إضافيةٍ لتنمية مراكز نفوذها الخاصة. سياسيا واقتصاديا أيضا، تتوزّع خريطة النفوذ الرئيسية بين قوى المجلس الرئاسي، من المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يمثل قوة نفوذ صاعدة، متعدّدة الأقطاب في المناطق الجنوبية، إلى حزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي يكرّس امتيازاته الاقتصادية في مدينة تعز، وكذلك مدينة مأرب، وأيضا شبكاته المتجذّرة في مناطق الثروات جنوبا، إلى جانب حزب المؤتمر الشعبي، جناح العميد طارق محمد عبدالله صالح الذي تدعمه مراكز نفوذ تقليدية، وريثا لصالح، في قطاعات الدولة، إلى جانب تأسيسه مراكز نفوذ في مدينة المخا، بحيث أدّى الانقسام السياسي في المناطق المحرّرة، وتوزّعها بين قوى مختلفة إلى تكرس مستويات متعدّدة من مراكز النفوذ، من قوى المجلس الرئاسي إلى القوى المتحالفة معها.
ومن جهة ثالثة، أدّى استمرار التشظّي السياسي في سلطة المجلس الرئاسي إلى مأسسة قوى المجلس لمراكز نفوذها، بحيث أدارت مؤسّسات الدولة لصالح أقطابها ومتنفّذيها، إلى جانب تنافسها على الموارد، وصراعها على الصفقات وإبرام العقود، كما أن فسادها كمنظومة سلطوية، منقسمة، ومتعدّدة الأطر السياسية، وأيضا الاقتصادية، سواء التي تعمل داخل الدولة أو في الظل، أدّى إلى تشعب قنوات الفساد وتوسيع شبكة المستفيدين من قوى محلية هامشية إلى المتدخّلين، إلى جانب تأطيرها تحالفاتها على المستوى السياسي، وتحديدا علاقتها بحلفائها الإقليميين، بحيث تضغط لتمرير أجنداتها، بحيث نجحت أقطاب النفوذ الإماراتي في المجلس الرئاسي والحكومة بفرض صفقة ضدّا من المصالح الوطنية، كمصادقة الحكومة، أخيرا، على إنشاء شركة اتصالات يمنية – إماراتية.
ومن جهة رابعة، غياب السلطة المركزية المفترض أن تشرف على العمليات الاقتصادية، وتسيطر على الموارد، أدّى إلى سهولة تشكيل مراكز نفوذ طارئة هامشية، تستفيد من صراعات القوى في المجلس الرئاسي وتنافساتها وفسادها.
غياب السلطة المركزية المفترض أن تشرف على العمليات الاقتصادية، وتسيطر على الموارد، أدّى إلى سهولة تشكيل مراكز نفوذ طارئة
يبرز المسار التفتيتي في تقويض المركز بوصفه سلطة، وأيضاً مركز نفوذ سياسي واجتماعي، وقبلها اقتصادي، في التحوّلات القسرية التي أوجدتها جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لها، والذي يتعدّى تدمير البنى المستقرّة للدولة إلى تدمير مراكز النفوذ القديمة من القوى الاجتماعية والقبلية والاقتصادية التي ظلت مهيمنة على امتيازات السلطة طوال سنوات حكم نظام صالح، إلى جانب استهداف مراكز نفوذ هذا النظام، بشكلٍ رئيسي ووراثة أدواتها ومصادرها، مقابل إنتاج مراكز نفوذ جديدة، في مقدّمتها سلطة الجماعة، على اختلاف أقطابها، إلى جانب توليد مراكز هامشية، اختلفت سماتها تبعا لأشكال تحالفات الجماعة والامتيازات المشروطة بطبيعة الولاء، فمن جهةٍ مثل استهداف الجماعة الطبقات الاقتصادية، وتحديدا في صنعاء التي شملت البيوت التجارية التاريخية، سواء بالتضييق عليها أو تهجيرها، استراتيجية موجّهة إلى الجماعة، مقابل وراثة مراكز نفوذ صالح، الاقتصادية على الأقل، وذلك بالسيطرة على الشركات التجارية الكبرى وإعادة تسميتها، واستثمارها من قيادات في الجماعة. كما أن طبيعة إدارتها سلطتها من احتكارها موارد الدولة، إلى سيطرتها على النشاط الاقتصادي، التجاري والمالي، بما في ذلك الاستيراد والتصدير أدّى الى تكريس اقطاب نفوذ ومراكز قوى متعدّدة داخل الجماعة، يختلف ثقلها والامتيازات التي تتمتع بها تبعا لقربها من زعيم الجماعة، كما أن كونها، بالأساس، سلطة وافدة من صعدة، عملت على تأسيس مراكز نفوذها في المناطق الأخرى التي أخضعتها، تميّزت بأنها طارئة، أي نشأت بفعل امتيازات الجماعة كسلطة أمر واقع تسيطر على العاصمة، وتهيمن على النشاط الاقتصادي وموارد الدولة، مقابل إزاحة مراكز النفوذ المحلية، وتجريفها وتجفيف منابعها وقنواتها، سواء بالقوانين التي تُصدرها الجماعة لتنظيم العمليات الاقتصادية، والتي تكرّس احتكارها لها، أو بأشكال الهيمنة والإخضاع التي تمارسها.
ومن جهة ثانية، السلطة الأحادية لجماعة الحوثي جعلتها تُحكم قبضتها على القنوات التي تساهم في تشكيل أي مراكز نفوذ محتملة على المدى البعيد، بحيث استمرّت في ربط كل أشكال النشاط الاقتصادي والتجاري والمالي بمركزها، كقوى نفوذ وعبر قنواتها، إلى جانب أن تحالفاتها الاجتماعية في النطاقات الجغرافية خارج حاضنتها الاجتماعية، وإن جعلها تمنح امتيازات جزئية للقوى المحلية المتحالفة معها، بهدف تثبيت سلطتها، وضمان شكلٍ من الولاء السياسي، ما أدّى إلى تنمية مراكز نفوذ صغيرة، إلا أنها، وإلى جانب أنها غير مستقرة، أي لا تشكّل طبقة نافذة مؤثّرة على مستوى القرار، فإن بقاءها مرتبط بإدارة الجماعة سلطتها، حيث ظلت خاضعة لها من اقتسام متنفذي الجماعة لعوائدها الاقتصادية، إلى أشكال الإتاوات والضرائب التي تفرضها الجماعة على هذه القوى، للسماح لها بممارسة نشاطها الاقتصادي، وإن انحصر في نشاطاتٍ ثانوية.
ومن جهة ثالثة، أدّى فساد الجماعة، كسلطة أمر واقع، وأيضا اعتمادها على اقتصاد الحرب المتنوّع، وأيضا تعدّد مراكز نفوذها، إلى توليد شبكة اقتصادية، وكذلك اجتماعية، هجينة، وهامشية أيضا، إلا أنها تمثل مراكز نفوذ صغيرة تدعم الجماعة كسلطة، وقبلها كمراكز نفوذ متعدّدة الأقطاب.