التسوية الإقليمية الشاملة حبل النجاة الوحيد للنظام الجزائري
كتب البراق شادي عبد السلام في صحيفة العرب.
الاتحاد المغاربي الملغوم الذي تروج له الجزائر يظل مجرد مبادرة وهمية على الورق محكومة بالفشل الذريع نتيجة استبعاد المملكة المغربية بنموذجها الاقتصادي الصاعد وإشعاعها الحضاري الكبير.
“جئتكم بفكرة بسيطة جدا وقد تكون ساذجة” هي العبارة التي وردت على لسان الرئيس الجزائري الراحل عبدالعزيز بوتفليقة في حوار تلفزيوني وهي تكشف بوضوح تام واقع الفعل السياسي الجزائري طوال عقود من سيطرة جناح هواري بومدين في الدولة على مقاليد السلطة بدعم من كبار دهاقنة حزب جبهة التحرير الجزائري وضباط فرنسا داخل الجيش الجزائري.
السذاجة السياسية لنظام الهواري بومدين في الجزائر بدأت بقبوله ليلعب دورا وظيفيا حافظ بإخلاص كبير على المصالح الاستعمارية في شمال أفريقيا وبشكل خاص في الجزائر والتي كانت تسمى “الأقاليم الجنوبية” لفرنسا نابليون حيث يحكم هذا النظام بشكل صوري “العمالات الثلاث” في مستعمرة الجزائر السابقة وقد تكلف بشكل مبكر بلعب دور إستراتيجي لتعطيل مسيرة المغرب التنموية عن طريق تمويل واحتضان المعارضة اليسارية المسلحة التي التجأت إليه في عقد الستينات والسبعينات ثم إشعال حرب إقليمية في أكتوبر 1963 تحت مسمى “حرب الرمال” ثم الانتقال إلى المؤامرة الكبرى بمحاولة فصل الصحراء المغربية عن وطنها الأم وإقامة دويلة عميلة في جنوب المغرب وهي المؤامرة التي لا تزال فصولها مستمرة بشكل كاريكاتوري إلى حدود كتابة هذه الأسطر.
واليوم استطاع العقل الإستراتيجي المغربي بعد عقود من الصراع الخفي والمعلن وبعد معارك دبلوماسية طاحنة أن يروض الدوائر الاستعمارية الأوروبية القديمة/ الجديدة برسم خطوط حمراء وفرض قواعد اشتباك جديدة على المحيط الإقليمي وفق مقاربة شاملة عنوانها الاستقرار والأمن والسلام والتنمية، نجد أن اجترار النظام الجزائري لسرديات بومدين المتهالكة المبنية على نظرية المؤامرة وأسطورة العدو الخارجي في زمن التكتلات الجيوسياسية والدبلوماسية متعددة الأطراف الفاعلة هو “سذاجة سياسية” وفهم ضيق لطبيعة التفاعلات الإقليمية وإصرار مستدام على وضع العقبات أمام الشعوب التواقة إلى رؤية فضاء إقليمي مغاربي في جنوب المتوسط لا يقل قوة وهيبة وديمقراطية وتنمية عن الاتحاد الأوروبي في الضفة الشمالية.
فطبيعة النظام الجزائري الانقلابي في جوهره المؤمن بالحلول العسكرية كعقيدة سياسية وبالواقعية الهجومية كإستراتيجية لتدبير علاقاته الخارجية تجعل من الصعب على قيادة هذا النظام تقبل المغرب كدولة – أمة بخصائصها الجغرافية المتيمزة وبتقاليدها الأصيلة وبتاريخها العريق وبجيشها المنتصر ونظامها المستقر في حدوده الشرقية والجنوبية الغربية لأنه حسب هذا التفكير “الانقلابي” فالمغرب يشكل حجر عثرة تتكسر أمامها الأحلام التوسعية بجزائر لها إطلالة أطلسية وتهديد وجودي لنظام فاقد للشرعية يحاول خلق هوية هجينة عن طريق السطو على التاريخ الحضاري المشترك وبناء مواقف انطلاقا من ردود أفعال والتدخل في كل القضايا والملفات الإقليمية بعرض الوساطات البهلوانية بغرض تحقيق تموقع جيوسياسي أكثر تقدما في القضايا الدولية والإقليمية كما هو الشأن بالنسبة إلى ملف سد النهضة بين إثيوبيا ومصر وملف السلام والأمن في الساحل الأفريقي والقضية الفلسطينية والحرب الأهلية السودانية.
النظام الشمولي الذي يحكم الجزائر بيد من حديد طوال ستين سنة من الاستقلال الموهوم ظل في خدمة أهداف الدوائر الاستعمارية رغم اصطفافه بعد الاستقلال إلى جانب المعسكر الشرقي المناهض في شعاراته وخطاباته للاستعمار واستغلال الشعوب وبغض النظر عن التاريخ الذي حدد المسار الإنساني لهذه البقعة الصغيرة من الجغرافيا تحت مسمى الجزائر أو “بلاد المغرب الأوسط ” والتي كانت من بين المناطق القليلة في العالم التي ظلت طوال تاريخها تفتقد لمفهوم السيادة واستقلالية القرار الوطني حيث حافظت لقرون طويلة على طبيعتها الترابية والإدارية في شكل إقليم أو مقاطعة تابعة لإمبراطورية ما (المغربية ثم العثمانية والفرنسية) وهو الأمر الذي كرسه الاستعمار الفرنسي الذي قام بمصادرة الشعور الوطني والقومي للشعب الجزائري في الوقت الذي كانت فيه الشعوب المجاورة تستنهض تاريخها العريق انطلاقا من مقاومة وطنية ألهمت مختلف حركات التحرر في العالم، ورغم حصول الجزائر على الاستقلال الشكلي بعد ثورة شعبية مسلحة بدعم مباشر وكامل من الشعب المغربي وقواه الحية تحت قيادة المؤسسة الملكية، إلا أن الطغمة العسكرية التي سيطرت على دواليب الحكم في الدولة الفتية حديثة العهد بالاستقلال أفرغت الثورة من رسالتها النبيلة وانقلبت على رفاق السلاح والثورة ثم تورطت في حرب مجنونة في أكتوبر 1963 ضد المملكة المغربية التي فتحت مخازن سلاحها أثناء الثورة الجزائرية أمام الثوار وجعلت من أراضيها ومدنها الحدودية قواعد خلفية لانطلاق العمليات الثورية ضد المستعمر الفرنسي، فكانت ثورة أفشلت في تحقيق أهدافها التحررية سيطر على أوصالها الكولونيل الهواري بومدين الذي تحول إلى “روبيسبيير جزائري” ارتكب فظاعات ومذابح حقيقية في حق رفاقه وأصدقائه بعد انقلاب يونيو 1965 إلى غاية وفاته في أغسطس 1978.
النظام الجزائري اليوم يعيش في ظل مواجهة دبلوماسية مفتوحة مع محيطه الإقليمي من خلال محاولة فرض هيمنته الإقليمية حيث إن هذه المواجهة تكلفه الكثير من الأخطاء السياسية والقرارات الانفعالية، آخر هذه السقطات الدبلوماسية الشنيعة هي محاولة النظام الجزائري بعث فكرة اتحاد المغرب الكبير بتجاوز المنطق واللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك بين شعوب المنطقة التي عاشت لقرون تحت حكم واحد في أكثر مناسبة تاريخية، المبادرة الحالية التي تقودها الجزائر بعقد اجتماعات مشتركة مع دول مغاربية والعمل على التغييب المنهجي للمملكة المغربية “الحاضنة التاريخية” لفكرة توحيد الشعوب المغاربية انطلاقا من تجارب تاريخية وحضارية سابقة حيث وحد المغرب الأقصى كل أقطار المغرب الكبير في عهد المخزن المرابطي والمخزن الموحدي والمخزن المريني وشكلت المنطقة إلى جانب الأندلس الجناح الغربي للعالم الإسلامي الممتد من المحيط الأطلسي غربا إلى بحر الصين شرقا، هذا الجناح الذي كانت له أدواره التاريخية المشهودة له في التاريخ الإسلامي.
قلنا إن التغييب الممنهج للمملكة المغربية في هكذا اجتماعات يضعف بشكل كبير أي محاولة جزائرية لبناء منظومة مغاربية بديلة لابتعاد هذا التكتل الهجين الذي ما فتئت تدعو له الجزائر الرسمية في أكثر من مناسبة عن المبادئ المؤسسة لاتحاد المغرب الكبير وبالتالي سيكون مفرغا من حمولته التاريخية وأبعاده الحضارية المتميزة وستظل هذه الاجتماعات لقاءات روتينية غير قادرة على بلورة تصورات مغاربية حقيقية للإشكالات المطروحة وعاجزة عن تقديم حلول ناجعة للقضايا العالمية والقارية والإقليمية المطروحة فوق طاولة الفاعل المؤسساتي في دول جنوب المتوسط وشمال أفريقيا.
المشروع المغاربي الذي يطرحه النظام الجزائري لا يمكن أن يكون له أثر جيوسياسي أو تأثير سياسي على الملفات الإقليمية المطروحة سواء بالنسبة إلى شركاء المنطقة جنوب الصحراء الكبرى أو في الضفة الشمالية للبحر المتوسط أو بالنسبة إلى باقي المحاور الكبرى الفاعلة في السياسة الدولية، في الوقت الذي تراهن فيه التكتلات الدولية والإقليمية على بناء منظومات ردع جيوسياسي من خلال الهيمنة وبسط السيادة على المضائق البحرية لأهميتها في النقل التجاري أو الإستراتيجي وبناء منظومات اقتصادية بسلاسل إنتاج متكاملة فإن الاتحاد المغاربي الملغوم الذي تروج له الجزائر يظل مجرد مبادرة وهمية على الورق محكومة بالفشل الذريع نتيجة استبعاد المملكة المغربية بنموذجها الاقتصادي الصاعد وإشعاعها الحضاري الكبير ومساهمتها المهمة في الأمن الغذائي العالمي باعتبارها “سلة غذاء العالم” باحتياطاتها الفوسفاتية المهمة وموقعها الجغرافي المتميز متوسطيا وأطلسيا الذي يجعلها أحد ثوابت السلام العالمي، كما أن عمقها الأفريقي يحولها إلى منصة أفريقية متعددة الأبعاد مفتوحة أمام العالم.
النظام الجزائري اليوم يمر بمرحلة تاريخية دقيقة جدا عنوانها “الإفلاس” نتيجة غياب مشروع سياسي واضح ومتوازن يشكل أرضية مشتركة بين مختلف أطياف الشعب الجزائري لبلورة رؤية إستراتيجية تحدد الوسائل والأدوات المطلوبة لتحقيق التنمية المستدامة والعيش الكريم لشعب يستحق الحياة بعد قرون طويلة من الإذلال والاستعباد والاستعمار توجتها عشرية سوداء من القتل والذبح والتهجير القسري نفذتها أياد آثمة لا تزال إلى اليوم تضع يدها على مقدرات الشعب الجزائري وتبددها في سياسات عسكرية غبية وصفقات تسليح بمئات المليارات من الدولارات وتمويل وتسليح وتدريب الجماعات الإرهابية والانفصالية لزعزعة الاستقرار الإقليمي والقاري.
أفريقيا اليوم في ظل التهديدات الكبرى التي يضعها سلوك النظام الجزائري تجاه دول الجوار في حاجة إلى التفكير في بناء “طوق تنموي أفريقي” ينهي أحلام بومدين لجنرالات العشرية السوداء بالوصول إلى واجهة أطلسية تضمن للجزائر الهيمنة الإقليمية وتحقيق حلم الدولة القائدة لشعوب شمال أفريقيا و“طوق تنموي” يفرض على هذا النظام الاندماج بشكل جدي في الجهود الأفريقية والإقليمية لمعالجة إشكالاتها الكبرى، وفي ظل هذه التطورات الجيوسياسية المتسارعة موريتانيا اليوم مطالبة بأن تلعب دورها “كدولة عازلة” تحافظ من خلال حيادها الإيجابي على صيرورة الأمن الإقليمي واستقرار المنطقة، فكما هو معروف النظام الجزائري من خلال الرؤية العسكرية الضيقة للجنرالات المتعطشين للحرب والدماء يعمل جاهدا لضمان ولاء نواكشوط في أي مواجهة مستقبلية مع المغرب بتحويلها إلى “دويلة” فاقدة للسيادة تفتقر لاستقلالية قرارها الوطني من خلال تسليط عصابات بوليساريو للعبث بالأمن الداخلي الموريتاني كما حدث سابقا في حرب الصحراء المقدسة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي والتي خاضها أسود القوات المسلحة الملكية بكل شجاعة وبطولة ونكران للذات في معارك وانتصارات سيتوقف التاريخ العسكري طويلا أمامها.
الموقف الإقليمي اليوم في حاجة إلى تسوية إقليمية ترتكز على روح “مبادئ ويستفاليا” يضمن مسارا معقولا للسياسة الخارجية الجزائرية ويحافظ على الأمن الإقليمي والاستقرار السياسي للمنطقة، فخيار “التسوية الإقليمية” سيظل خيارا مطروحا على طاولة صانع القرار الجزائري لأنها حبل النجاة الوحيد أمامه للخروج من الأزمة البنيوية التي يعيشها نتيجة الصراع بين مختلف أجنحة النظام، هذه التسوية ستوفر للبلاد إطارا سياسيا مستقرا على المستوى الإقليمي، مما يعطيها المساحة الكافية للتركيز على معالجة التحديات الداخلية الملحة التي تواجهها والتي من المحتمل أن تدخلها في نفق عشرية دموية جديدة تنتهي بتفكك الدولة الجزائرية مما سيهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، في هذه المرحلة الحرجة، يكتسب هذا الخيار أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة إلى الجزائر كدولة حيث سيعزز موقعها الإقليمي ويحافظ على استقرارها السياسي، ويؤسس لبناء منظومة فكرية جديدة داخل النظام الجزائري تؤمن بالتعاون الإقليمي والترابط بين الشعوب المغاربية وتنهي مع فكر بومدين التوسعي البائد.
إستراتيجية “اليد الممدودة المغربية” نحو الجزائر والتي ما فتئت الخطب الملكية السامية تؤكد عليها من منطلق سيادي يضمن المصالح العليا للشعب المغربي تشكل حاليا الإطار السياسي الوحيد والمقاربة الدبلوماسية الوحيدة الممكنة من أجل تحقيق هدف “التنفيس الجيوسياسي الإقليمي” من خلال إطلاق مباحثات مشتركة بين مختلف الأطراف الإقليمية بهدف تخفيف التوتر وخفض التصعيد الإقليمي وبناء أرضية مشتركة لمناقشة مختلف التحديات المفروضة على شعوب المنطقة وفي مقدمتها الأمن البشري بامتداداته وشموليته، كما أن النظام الجزائري أمامه اليوم فرصة حقيقية لإعادة صياغة العقيدة الدبلوماسية الإقليمية الجزائرية من خلال الانخراط الجدي في جهود الأمم المتحدة لبلورة اتفاق سياسي لقضية الصحراء المغربية يحترم السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، ثم وقف التدخلات الجزائرية في الشأن الداخلي لدول الجوار كتونس وليبيا وموريتانيا ودول الساحل والمشاركة بشكل جدي ومسؤول في مختلف المبادرات التنموية الإقليمية.