الاسواق الصناعية في حالة حرجة..لماذا؟
جاء في “نداء الوطن”:
السوق الصناعية على “آخر نفس” في المتن- سد البوشرية، كما في كسروان في نطاق منطقة الزوق، المنطقتان تعملان بنسبة 20 الى 25 بالمئة. فعلى الرغم من ان الحياة في لبنان مستمرة كما الدورة الاقتصادية على بطئها، وحاجات الناس الى تصليح سياراتها او السكن او طبع أوراق وكل ما يلزم، فإن هناك شبكة من المهن الموجودة في الأسواق الصناعية، التي تضم بعض المحال الصغيرة وبعض المعامل متوسطة الحال، تتجه الى الاسوأ.
المنطقة الصناعية في سد البوشرية التي انتعشت بالمهن في فترة الحرب الأهلية، هي في الاصل ارض تخص اوغوست باخوس، ومع عدم قدرة عدد كبير من الشباب على اكمال تحصيلهم العلمي الأكاديمي التخصصي، انتشروا في المدن الصناعية لتأمين لقمة العيش بمهن حرة وحرفية عالية، ولكن ها هو لبنان اليوم يخسر حرفييه. فهذا الذي درس الهندسة المعمارية أيام الحرب وتعلم تقليم الحديد وفق اشكال هندسية من شقيقه عام 1975 يغني “يا ليل يا عين” مستغنياً عن فاتورة المولد، يتحسر اليوم على تلك الأيام عندما كان الشباب يتجهون الى صنعة ما ان استمر وضع سوق العمل الى انحدار سائلاً : لكن أين الكهرباء ليعملوا؟ قمة الانتعاش في هذا الشارع كانت في مرحلة ما بعد الحرب، ومنذ العام 2005 بدأت بالتراجع وصولاً الى اليوم، بحيث تعمل فقط بـ عشرين بالمئة من طاقتها.
اسعد باع مصلحته كلها بعد ان تعذرت عليه عملية تسديد الايجار الى صاحب العقار، مع الأدوات التي في المحل بـ 6000 دولار بعد ان تردى وضعه نتيجة سعر الصرف، ولا يفكر اليوم باي عمل آخر، فالوضع غير آمن حتى لأقل استثمار من شخص لا يعرف ان كان هذا المبلغ يكفي له ولعائلته الصغيرة التي هي على عاتقه.
ومع ظهور ما يوحي بالفرص لبعض المهن كتصليح الدراجات النارية بعد ان لأ اليها المواطنون نتيجة ارتفاع في سعر البنزين مع توقع انتعاش في تصليحها ولكن الواقع كان نقيض ذلك اذ ان اغلب المواطنين يشترون الارخص أي الاقدم وتلك يصعب إيجاد قطع غيار لها فتجدها مكدسة عند صاحب المحل الياس، وحسب تعبيره من يطرأ عطل على دراجته يتغاضي عنها بسبب ارتفاع سعر القطع بالدولار. هكذا لا يحصد من غلة اليوم الا 100 الف ليرة توزع على ايجار المحل والعمال وهم فتيان سوريون وذلك ليوفر في اجرة اليد العاملة من جهة، وليكسب اكثر مما يقتطعه من الربح فيؤمن مصروف منزله الخاص.
تحسن العمل بعد انفجار بيروت في كل ما يتعلق بالزجاج فيخبر ميلاد صاحب محل تصميم وبيع زجاج وتركيب لثلاثين عاماً، عن الهجمة على تصليح الشبابيك والابواب فتدافع المواطنون على الدفع “كاش” اكان بالعملة اللبنانية الوطنية او بالدولار مهما كلف “أمان” المنزل وتلك لا يمكن تحديدها على حد توصيف ميلاد، اذ ان كل منزل يختلف عن الآخر حسب الشكل المطلوب الا ان سعر الزجاج لم يتبدل اما كلفة اليد العاملة فيسعرها بالليرة اللبنانية، وتستمر هذه الحركة حتى ساعة متأخرة يومياً. هذا ليس المحل الوحيد في المدينة الصناعية في سد البوشرية الذي يعمل في الزجاج لكن على حد قول ميلاد كل محل له زبائنه او المتعاملون معه من المهندسين في ورش البناء او النجارين. لكن النجارين انفسهم الذي يرسلون اليه الاعمال لا يعملون بالوتيرة نفسها بسبب الغلاء وندرة الطاقة الكهربائية. فحرفة خوري في منشرته تعتمد على العمل اليدوي وبعض الآلات ويفتخر ان كل ما يصنع في منشرته يخرج من دون أخطاء في القياس التي ان حصلت يتحمل مسؤوليتها اذ ان كل انتاجه هو عن خبرة. يقسم فريقه بين معلّم أي صاحب الخبرة الذي لا يمكن إيجاد مثله في هذه الأيام لان اليافعين يتجهون الى الوظائف المكتبية او الاختصاصات الكبرى في ظل غياب التوجيه المهني، و”الشغّيل” لكنه في مطلق الأحوال خفّض بسبب الأوضاع وقلة العمل اعداد فريقه محافظًا على المعلم الذي هو أساسي لديه وبسبب ندرته في السوق. قلة قليلة من شبكة زبائنه ما زالت تطلب منه طلبيات، فغلاء المواد الأولية والمولدات جمد الاعمال فكل تلك تضاف على الفاتورة. هذا الانخفاض في وتيرة العمل انسحب على كل السوق، ففي البناية حيث هو متمركز هو الوحيد الذي يعمل من اصل 6 شركات صغرى مصلحتها النجارة التي تعتمد على الخشب.
والعمل بالالومينيوم الذي “يضارب” بالحال السيئة على العمل بالخشب أسعاره نار كما يخبر الحداد طوني فهذه المواد الاولية قد يصل سعرها الى 600$ ان استخدم 6 قضبان لصناعة باب من حديد وان اشترى طناً سيدفع 6000 آلاف دولار نقدًا. هكذا قد لا يدخل زبون واحد اسبوعياً او شهرياً إلى محله الذي يعيش منه هو وابنه الذي درس إدارة الأعمال بعد ان عجز عن إيجاد عمل له في سوق العمل عاد وانخرط بالعمل مع والده في الحدادة التي تحتاج الى طاقة الكهرباء المقطوعة. يقارن طوني بين اعمال عام 2019 التي وصلت وتيرة عمله الى تأمين أبواب لـ 11 بناية في بعبدا اما اليوم لا بنايات جديدة بسبب توقف الإسكان عن القروض وتردي سوق العقارات.
وحده عباس، الذي يركب الوان دهان للسيارات والمنازل، ينافس بسرعته في عمله كل زملائه في الشارع فهو قد لا يحتاج لا الى الطاقة الكهربائية ولا الى مواد مستوردة من الدهان. اذ ان ما يملكه من صنعة هو من المهن النادرة ويمكن لخريج هندسة او رسم القيام بها ولكنه يتميز عن هذا الجيل الناشئ بالخبرة، فهو قادر على ان يسبق الكومبيوتر في التركيب ويصحح له عندما تنقطع الكهرباء. عباس الذي يعمل في الشارع منذ اكثر من 15 عاماً يخبر عن سوريين واكراد غير لبنانيين اصبحوا يفتحون محلات من دون ترخيص من الدولة، أو وزارة الصناعة، أو حتى من دون متابعة البلدية بحيث يمكن التحايل عليهم ان انضووا تحت اسم مالك المحل اللبناني. نادر وهو حداد من التابعية السورية يكذّب في جنسيته خوفًا من ملاحقته باعتبارنا “صحافة”، حتى لو يعرفه الشارع كله، وحتى هو انخفض معدل العمل لديه. الأحوال التي انقلبت رأساً على عقب في الشارع ولا إيجابيات فيها الا القدرة على إيجاد موقف للسيارات، طالت حتى الحدادين الكبار مثل مروان الذي كان يعيد تأهيل سوبرماركات او مولات او محلات ضخمة وشركات ويصدّر الى الخارج قلص فريقه من 80 موظفاً الى 10. مروان غاضب من الوضع الحالي حتى إنه لا يمكنه ان يصدّر إلى الخارج لاستيفاء أمواله عبر “وسترن يونيون” لأنها تبلغ اكثر من المسموح تحويله.
المنطقة الصناعية في الزوق التي تعمل بطاقة 20 بالمئة ليست افضل حالاً مما يوحي ان الحالة المتردية معممة، فبجولة لـ”نداء الوطن” على 20 محلاً قد تجد 5 تعمل و 5 فتحت ابوابها كمنظر، اما الباقي فمقفل والذي يعمل في ملحقات البناء انتقل من التأمل بالورش الكبرى الى منطق “الزبون من غيمة”. الزبائن هنا يعتمدون على “الصديق وقت الضيق” ان كان صاحب “الكاراج” تربطه به علاقة شخصية ترأف بحاله. فكميل الذي يقطن في الزوق يصلح سيارته في المنطقة الصناعية لان صديقه يحسم له من الفاتورة من حساب “شغل الايد” اما تكاليف سعر القطع فمن المستحيل اللعب في سعرها متغاضياً في بعض الأحيان عن الكشف الشهري، او حتى “مطنشاً” الى نهاية عمر القطعة. ويحسب جان، وهو أستاذ مدرسة متقاعد، المبلغ الذي قد يصل الى نصف راتبه التقاعدي بين زيوت وقطع غيار هذا ان استهلك سيارته في الأساس كسياسة توفير من عمر سيارته التي تؤمن له حاجات المنزل. اول من انشا المدينة الصناعية في الزوق هو ناصيف جبور وهو صناعي كان يملك مطاحن، وعنيسة صاحب محل حدادة، اول الوافدين الى الشارع المصنف صناعياً وله شروطه. قدرة عنيسة على الصمود اليوم تعود الى ان المحل ملكه ويعاونه ابنه في اعماله بعد أن لجأ مجدداً الى محل والده بعد ان تعذر عليه العمل كمهندس. هذا الرجل الهرم، والذي من حقه ان يحصل على راتب تقاعدي من الدولة، يقف منحني الظهر، منتظراً الكهرباء لينتهي بعض من تبقى من العاملين لديه من أعمالهم، بعضهم هو من العمال اليوميين الذين ينتظرون دورهم في العمل بعد ان يختارهم احد أصحاب المحال ليعمل. “شغّيلته” المياومون من الجنسية السورية، ينتظرون في الصف عند تخوم المدينة الصناعية منذ عام 1995، يتأسّفون على ما وصلت اليه أحوال المدينة فهم على الرغم من انهم يؤدون وظائف لا يؤمنها اللبنانيون، لانهم لا يرضون ان يكونوا بمرتبة “شغّيلة”، ينتظرون أحيانا كل النهار وقد لا يتم طلبهم الى العمل خصوصاً ان لا مهنة في يدهم فكل ما يقومون به هو “العتالة” وحمل الاثقال.
وفي اتصال مع وزارة الصناعة، لحمل شكوى الأسواق الصناعية وناشطيها سألت “نداء الوطن” عن إجراءات لتوفير الكهرباء فأجابت ان مشكلة الكهرباءعامة ولا يمكن مد خطوط خاصة الى المحال هذه علماً انها كانت تفاوض لبذل الصناعيين الكبار طاقتهم الخاصة وبالنسبة للمواد الأولية المرتفعة السعر، فهناك سعر عالمي، لا يمكن للوزارة المفاوضة عليه، ولكنها حاولت ان تخفض بالقدر الممكن من حساب الضرائب.