افتتاحية اليوم: “ذهب النجاة”

لم يعد الذهب مجرد زينة أو ملاذًا للأثرياء، بل تحوّل إلى “خزنة أمان” لكثير من اللبنانيين الباحثين عن طوق نجاة لمدخراتهم المهددة بالذوبان تحت نار التضخم وانهيار الدولار.
لقد بات الذهب الخيار المفضل للمواطنين اللبنانيين الذين فقدوا الثقة بأي نظام مالي أو نقدي داخلي، فالمشهد في محلات الصاغة بات يوميًا يشكل طوابير من مواطنين، رجالًا ونساءً من مختلف الطبقات، يشترون ما يستطيعون إليه سبيلًا من الذهب، سواء كان ليرات ذهبية، أو سبائك صغيرة، أو حتى مجوهرات بسيطة بهدف الادخار لا الزينة.
في هذا السياق، يؤكد مصدر مطّلع في هذا القطاع أن الإقبال “غير مسبوق”، مشيرًا إلى أن “الزبائن لم يعودوا يشترون للفرح أو المناسبات، بل للادخار والتخزين، يسألون عن العيار والسعر وإمكانية إعادة البيع، لا عن الشكل أو التصميم”.
وتؤكد المعطيات اليومية أن الطلب على شراء الذهب والفضة تضاعف ثلاث مرات خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما بعد المتغيرات التي يشهدها العالم على أكثر من صعيد.
لا شك أن هذه الظاهرة تعكس سلوكًا عقلانيًا في ظل غياب السياسات المالية والنقدية الفاعلة، فالذهب في الأزمات يتحوّل من سلعة إلى عملة بديلة، خاصة في بلدان تعاني من انهيارات متتالية في الثقة البنكية والنقد المحلي، وما نشهده هو تحوّط شعبي بوسائل بدائية لكنها فعالة. المواطن العادي بات يفكر كمدير محفظة مالية، لكن بوسائل محدودة.
وهذا الاتجاه لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل تبيّن أن بعض المؤسسات الصغيرة وحتى المهن الحرة بدأت تعتمد الذهب كوسيلة لتأمين رأس مالها أو مدفوعاتها، في ظل تقلبات الدولار على مساحة العالم.
لكن، هل هذا الاتجاه آمن ومستدام؟ يقول مصدر اقتصادي مطّلع إن الذهب ليس استثمارًا بقدر ما هو ملاذ، وحين يتوجه السوق بكامله نحو الملاذ، فذلك يعكس عمق الأزمة لا حلّها. ويعتبر أن الطلب الشعبي على الذهب يعكس انعدام الثقة بالعملة الورقية، وخصوصًا الدولار الأميركي، وهو مؤشر خطير على مستوى الاقتصاد العالمي.
إن ما تقدم يؤشّر إلى أن اللبنانيين عادوا، بوعي أو من دونه، إلى منطق “الكنز الشخصي” الذي عرفته مجتمعات الحرب واللادولة. فكل غرام ذهب يُخبّأ في بيت أو خزانة حديدية، هو شهادة إضافية على فشل النظام المالي، وعلى انتقال الناس من الاقتصاد المنظم إلى الاقتصاد الغريزي.
ومع غياب الأفق الواضح للحلول، لا يبدو أن هذا التهاتف على الذهب سيتراجع، بل قد يتحوّل إلى قاعدة سلوك اقتصادي شعبي على المدى البعيد، طالما العالم بأسره وكأنه يجلس على كرسي متحرّك، لا بل هزّاز.