يوم حاول «طه»
كتب أحمد الصراف في صحيفة القبس
صراعنا مع أنفسنا ومع من يعادينا ومع حاضرنا ومع المستقبل هو صراع حضاري. فلا يمكن الفكاك من التخلف أو الجمود بسهولة!
في 1926 صدر في القاهرة كتاب «في الشعر الجاهلي»، للمفكر الكبير طه حسين، ومنذ يومها والمعركة مستمرة بين المحافظة على التراث وبين التقدم، وكانت الغلبة للتشدد، حيث حوكم طه وفقد وظيفته، وأجبر على تغيير عنوان كتابه، بعد حذف فقرات مهمة منه.
طعن طه في صحة نسبة الشعر الجاهلي لعصره، أي عصر ما قبل الإسلام، ووصفه بالمنحول والمختلق، وأنه كتب بعد الإسلام، ولأسباب اجتماعية وقبلية ودينية. كما شكك في وجود شعراء فحول كامرئ القيس وغيره.
قام طه باتباع منهج ديكارت في قراءة الشعر الجاهلي بذهنية خالية من أي مواقف أو آراء مسبقة، وقام ببحث حيادي وموضوعي، ليكتشف أنه لا يمثل عصره، وأن القرآن كان مرآة أكثر مصداقية في وصف عصر ما قبل الإسلام.
قدم طه مجموعة من الأدلة على صحة رأيه، متسائلاً: كيف يمثل الشعر عصراً، ومع هذا لا يتضمن أي سطر يتعلق بمعتقدات ذلك العصر، أو طريقة معيشة قومه، وطبيعته، والحياة السياسية فيه والعادات السائدة؟ فالشعر مرآة عصر الشاعر وتعكس ظروف زمنه، وأوثانهم أو آلهتهم، فلا شيء عن عاطفتهم الدينية في شعرهم، بل هناك إشارات قليلة جداً نجدها أقرب للعقائد الإسلامية، مناقضة عما هو معروف عن العقائد الوثنية، وهذا يدفع نحو الشك، وأنه شعر مثل روحية الدين الإسلامي، وليس ما قبله.
كما لم يرد شيء في الشعر الجاهلي عن حروب العرب مع الروم والفرس والصراع بينهما، وما أدى لانقسام العرب بينهما. ولا ذكر لرحلات العرب للشام واليمن، وغيرها من الأمور المثيرة للتساؤل، ولا حتى سطر عن أحداث كبرى وقعت في تلك الفترة، بخلاف القرآن الذي تطرق لها، ولما بعدها.
كما تطرق بحثه للغات العصر الجاهلي ولما بعد ذلك، حيث تبين أن هناك تشابهاً كبيراً بين لغة الشعر الجاهلي ولغة عصر القرآن، على الرغم من أن شعراء الجاهلية انتسبوا لقبائل ومدن متفرقة تفصل بينها مسافات هائلة ولها لهجات مختلفة عن بعضها بشكل كبير، فكيف أصبحت أشعارهم وكأنها مكتوبة بلغة عصر القرآن؟ فبعض هؤلاء الشعراء من قحطان وبعضهم من عدنان، وبعضهم يمنيون وآخرون من الحجاز، إلى آخره، فلم لم ينعكس ذلك على أشعارهم؟ فامرؤ القيس قحطاني لكن شعره بلهجة قريش، وهذا يعني أنه كتب في زمن القرآن أو بعده، فأغلب شعراء الجاهلية ماتوا قبل ظهور القرآن، أصلاً، فكيف تأثروا به؟ وهذا يضعنا أمام احتمالين؛ إما أن شعراء الجاهلية لا وجود لهم، وإما أن الشعر المنسوب لهم ليس لهم، والسبب من نسبة الشعر لهؤلاء يعود لأسباب عدة منها التنافس والتفاخر بين القبائل العربية، فأخذ كل فريق ينتحل قصائد مدح له وينسبها للجاهلية، والتغني بالأجداد العرب، وماضيهم التليد أمام الفرس والروم. أو أريد من نسبته للجاهلية ليكون تمهيداً للرسالة النبوية، أو ليثبت همجية العصر الجاهلي، وأن الإسلام أتى كنقلة نوعية لعرب الجزيرة. كما كانت هناك حاجة لمفسري القرآن للاستشهاد بالشعر الجاهلي في التفسير، كون الشعر الجاهلي قاموس اللغة.
كان من الممكن جداً أن يكون كتاب الشعر الجاهلي مدخلاً لنهضة الأمة من كبوتها، ولكن المحاولة وئدت بقوة، كما حدث مع ما سبقها، وأهين الرجل الكبير، ليكون عبرة لغيره، ولنبقى أسرى قديم أفكارنا.
من كل ذلك نكتشف أن غالبية من يستصرخون ضمائر الأمة، في هذه الأيام، ويستغربون من هوان حالها، في نصرة غزة، غير مدركين حقيقة أوضاعنا، وعجزنا التام عن القيام بشيء فعال، لوقف العدوان.