
إنّ الحرب التجارية التي يشنّها دونالد ترامب تُجبر المستثمرين على مواجهة احتمال تلاشي هيمنة العملة الأميركية أو حتى نهايتها.
في 15 آب/أغسطس 1971، قاطع الرئيس ريتشارد نيكسون حلقة من مسلسل “بونانزا” ليعلن عن “سياسة اقتصادية جديدة” للعائلات الأميركية المجتمعة أمام شاشات التلفاز مساء ذلك الأحد. ومن بين الإجراءات الكثيرة التي حدّدها الرئيس، فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على الواردات، وتعليق قابلية تحويل الدولار الأميركي إلى ذهب.
كان نيكسون أكثر قلقاً بشأن ردّ الفعل السياسي العنيف للأميركيين، الذين كانوا يتوقّعون قضاء أمسيتهم مع عائلة كارترايت في مزرعة “بونديروسا”، من “الرأسماليين الدوليين” الخبيثين الذين استهدفهم إعلانه. وكانت عواقب هذه الإجراءات وخيمة؛ فعلى الرغم من كونها إجراءات مؤقتة، إلا أنّ الولايات المتحدة لن تعود أبداً إلى ما يُسمّى بالمعيار الذهبي.
وما عُرف لاحقاً بـ”صدمة نيكسون” شكَّل نهاية حقبة مالية وبداية أخرى جديدة. وانتهى العمل بالإطار النقدي العالمي، الذي تمّ التوصّل إليه في فندق “ماونت واشنطن” بولاية نيو هامبشير خلال مؤتمر “بريتون وودز” في عام 1944. في المقابل، ساعدت “صدمة نيكسون” في إدخال عصر جديد من العملات العائمة التي يمكن تداولها بحرية، ونشأة الائتمان السريع، وتدفّقات رأس المال العالمية، غير المرتبطة بالذهب وغير المقيّدة على نحو مطّرد من قبل الحكومات.
وبعد أكثر من نصف قرن، يواجه العالم صدمةً بالقوة نفسها. ففي وقت سابق من هذا الشهر، كشفت إدارة دونالد ترامب عن نظام رسوم جمركية صارم، بحيث صدم حجم الرسوم والمنهجية السطحية التي استندت إليها حتى الكثير من المؤيدين لهذه الإدارة. وفي مواجهة التمرّد في الأسواق المالية، أعلن الرئيس عن تعليق جزئيّ لهذه الرسوم لمدة 90 يوماً، لكنّ المستثمرين ما زالوا قلقين. والدولار، الذي يرتفع عادةً في أوقات الأزمات المالية والاقتصادية، انخفض بشكل حاد.
ولكن في ظلّ موقف عدواني متزايد تجاه الحلفاء التاريخيين وموقف متناقض تجاه هيمنة الدولار من جانب بعض الشخصيات الرئيسة في الإدارة، أجبرت هذه الخطوة المستثمرين والمحللين في جميع أنحاء العالم على مواجهة إمكانية ظهور عصر جديد قد تتلاشى فيه هيمنة الدولار الأميركي أو تنتهي حتى.
وفي هذا السياق، قال مارك سوبيل، الرئيس الأميركي لمركز “OMFIF”، وهو مركز أبحاث مالي، ومسؤول كبير سابق في وزارة الخزانة الأميركية: “الحرب التجارية ليست سوى أحدث مثال على استخفاف هذه الإدارة ببقية العالم. إنّ كون الولايات المتحدة شريكاً وحليفاً موثوقاً يُعدّ ركيزة أساسية لهيمنة الدولار الأميركي، واليوم ذهبت هذه الركيزة أدراج الرياح”.
هناك سؤالان مرتبطان ولكنهما مختلفان قليلاً يتمّ طرحهما اليوم في مختلف المراكز المالية العالمية بعد “صدمة ترامب”. أولهما، إلى أيّ مدى يمكن أن يصل انخفاض قيمة الدولار الأخير؟ يمتلك الأجانب 19 تريليون دولار من الأسهم الأميركية، و7 تريليونات دولار من سندات الخزانة الأميركية، و5 تريليونات دولار من سندات الشركات الأميركية، وفقاً لكبير الاقتصاديين في شركة “أبولو”، تورستن سلوك. وفي حال بدأ بعض هؤلاء المستثمرين بتقليص حجم استثماراتهم، فستتعرّض قيمة الدولار لضغوط مستمرة.
ثانياً، إذا اكتسبت التدفّقات الخارجية زخماً، فهل يُمكن أن تُؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض الدور المميّز للدولار في الاقتصاد العالمي والنظام المالي؟ على الرغم من أنّ قيمة الدولار شهدت ارتفاعاً وانخفاضاً مستمراً، وسعي النقّاد المتواصل إلى تقويضه، إلا أنّ هيمنة الدولار ظلت ثابتة. ومع ذلك، يعتقد بعض المحللين والمستثمرين اليوم أنّ حجم “صدمة ترامب” قد ينهي ما يقرب من قرن من هيمنة الدولار.
وقد أشار غريغوري بيترز، الرئيس التنفيذي المشارك لشؤون الاستثمار في شركة “PGIM Fixed Income” إلى أنّ “الولايات المتحدة استفادت من وضع العملة الاحتياطية لمدة 100 عام. ولم يستغرق الأمر سوى أقل من 100 يوم لزعزعة هذا الوضع. وهذا أمرٌ خطير للغاية”.
عندما حضر وزير الخزانة في عهد نيكسون، جون كونالي، اجتماع مجموعة الدول العشر في روما بعد وقت قصير من إنهاء الولايات المتحدة لقابلية تحويل الدولار، قال رجل تكساس المتبجّح لنظرائه الدوليين المصدومين: “الدولار عملتنا، ولكنه مشكلتكم”. أما وجهة نظر إدارة ترامب فهي معاكسة تماماً: الدولار عملة الجميع، ولكنه مشكلة أميركا.
وعلى الرغم من قيام نيكسون بفكّ ارتباط الدولار بالذهب في عام 1971، بقيت العملة الخضراء في مركز العالم النقدي. وبسبب أهمية الدولار في النظام المالي العالمي المتوسّع والمترابط بشكل مطّرد، ازدادت أهميته. وبدلاً من أن تُضعفه “صدمة نيكسون”، رسّخته بطرق جديدة.
أما في عصرنا الحالي، فلا تُمثّل الولايات المتحدة سوى ربع الاقتصاد العالمي تقريباً، إلا أنّ أكثر من 57% من احتياطيات العالم الرسمية من العملات الأجنبية مُقوّمة بالدولار، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وفي حين جرى الحديث كثيراً عن التراجع النسبي في احتياطيات البنوك المركزية على مدى العقود القليلة الماضية، فإنّ إحصاءات الاحتياطيات قد تقلل من أهمية الدولار. وهناك الكثير من الثروات الأخرى من الأموال السيادية وشبه السيادية التي لا تشملها بيانات صندوق النقد الدولي بشأن احتياطيات النقد الأجنبي، وسواء كنت مصرفاً في منغوليا، أو خطة تقاعد في تشيلي، أو مجموعة تأمين أوروبية، أو صندوق تحوّط في سنغافوريا، فإنّ الدولارات تُشكّل الأصول الاحتياطية النهائية.
يحتّل الدولار مكانة مركزية في قطاع التجارة، بحيث تبلغ نسبة فواتير التصدير المقوّمة بالدولار 54%، وفقاً للمجلس الأطلسي. أما في قطاع التمويل، فتتّسم هيمنته بشمولية أكبر. إذ تبلغ نسبة القروض والودائع الدولية المقوّمة بالدولار 60%، ونسبة إصدارات السندات الدولية 70%. وفي مجال صرف العملات الأجنبية، تبلغ نسبة المعاملات التي تتضمّن الدولار 88%.
بالإضافة إلى ذلك، يتمّ تداول الأوراق النقدية الأميركية على نطاق واسع في الخارج نتيجة القبول الواسع للدولار. وبحسب البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، يمتلك الأجانب نحو نصف الأوراق النقدية الأميركية المصدّرة والتي تبلغ قيمتها أكثر من 2 تريليون دولار.
إنّ الطلب الدولي الهائل على الدولار يترجم إلى علاوة مضمّنة على الأصول الأميركية ويعني أنّ الولايات المتحدة تقترض بتكاليف أقلّ ممّا كانت لتفعل لولا ذلك، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان ذات يوم بأنه “الامتياز الباهظ” للولايات المتحدة. كما أنه يمنح الولايات المتحدة القدرة على تخريب النظام المالي لأيّ دولة أخرى من خلال العقوبات.
المصدر: صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية