اقتصاد ومال

هل يغير التقلب المناخي شكل الاقتصاد العالمي؟

منذ سنوات طويلة سنت دول الخليج العربي قوانين شغل العمال في بعض القطاعات التي تتضمن أعمالاً في الأجواء المفتوحة في ساعات النهار في فصل الصيف، وذلك من باب السلامة وحماية العاملين من درجات الحرارة المرتفعة وأخطار التعرض لحرارة الشمس. ومع التغيرات المناخية الناجمة عن الاحتباس الحراري بدأت دول أوروبية تفعل الشيء نفسه، إذ أعلنت إسبانيا كمثال مطلع العام عزمها على حظر العمل في الأماكن المكشوفة خلال فترات ارتفاع درجات الحرارة الشديدة، بل إن اليونان عينت منذ عام 2021 مسؤولاً عن الحرائق في الحكومة، بعدما تكررت موجات الحرائق نتيجة ارتفاع درجات الحرارة في كل دول جنوب أوروبا، مع ذلك تشهد اليونان حالياً سلسلة من الحرائق طاولت منتجعات سياحية تعج بالسائحين، في كورفو وغيرها، بل إن السلطات اضطرت إلى إغلاق موقع الأكروبوليس الأثري في العاصمة أثينا بعدما سقط بعض السائحين المنتظرين دخوله إعياءً مع تخطي درجة الحرارة 40 درجة مئوية، وبعد إجلاء السائحين من كورفو وغيرها لا يعرف بعد حجم الخسائر التي تكبدها قطاع السياحة في اليونان هذا الموسم، والذي من بين مصادر الدخل القومي المهمة.

خسائر ارتفاع درجات الحرارة والتغيرات المناخية الأخرى لا تؤثر في قطاع السياحة فحسب، بل على معظم قطاعات الاقتصاد، فوفق دراسة من جامعة دارتموث العام الماضي كلفت موجات الحرارة الناجمة عن التغيرات المناخية التي يسببها نشاط البشرية، الاقتصاد العالمي خسائر بنحو 16 تريليون دولار على مدى 21 عاماً، بحسب ما ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز”.

ارتفاع الحرارة مستمر

من المتوقع أن تكون الكلفة الاقتصادية للتغيرات المناخية من القضايا المهمة على جدول أعمال مؤتمر المناخ القادم، “كوب 28” في الإمارات قبل نهاية هذا العام، ومن القضايا المطروحة كيفية توفير الأموال للدول الأكثر تضرراً من ارتفاع درجات الحرارة ومساعدتها على التكيف بما يبدو أنه وضع سيستمر لفترة.

وإذا كان علماء المناخ يحذرون من أن ارتفاع درجات الحرارة بمعدل 1.5 درجة مئوية فوق معدلاتها الطبيعية يمكن أن يؤدي إلى كوارث تصعب معالجتها، فإن تعهدات دول العالم في شأن مكافحة التغيرات المناخية لا تلبي ذلك المطلب حتى الآن، ومع نهاية القرن وحتى مع التزام دول العالم تعهداتها فإن العالم متجه إلى ارتفاع درجات الحرارة بما بين 2.4 و2.6 درجة مئوية.

هذا الارتفاع سيعني بالتأكيد تغيرات جذرية في حياة البشر على كوكب الأرض، وستكون خسائر الاقتصاد هائلة، كما يقول وزير المناخ الدنماركي دان يورغنسن “ارتفاع درجات الحرارة هو أحد التبعات الخطرة للتغير المناخي… والمأسوي في الأمر أن الوضع سيزداد سوءاً على الأرجح”، وكما تقول أيضاً مديرة مركز “ريزيلينس” في المجلس الأطلسي كاتي بومان ماكلويد “ارتفاع درجات الحرارة يهوي بالنمو الاقتصادي”.

وتضيف ماكلويد أن ارتفاع درجات الحرارة “يضغط على اقتصادنا نزولاً… فممرات المطارات تتشقق وخطوط المترو تتعطل والمطاعم تغلق أبوابها، لأن العاملين في المطبخ لا يمكنهم تحمل الحرارة بهذا الشكل”.

ويتوقع معظم الخبراء وعلماء المناخ أن درجات الحرارة المرتفعة ستستمر، وربما تزيد في المستقبل، وستكون تلك الموجات أشد وطأة وتأتي على فترات أقرب وبوتيرة أكبر، فإذا كانت درجات الحرارة عالمياً في يوليو (تموز) الجاري أعلى بمعدل 1.1 درجة مئوية عن معدلاتها الطبيعية، وأدى ذلك إلى ما نشهده من حرائق وتوقف أشغال وتعطل قطاعات اقتصادية، فما بالنا حين يصل الارتفاع إلى الحد الذي قدره العلماء كمستوى خطر بزيادة 1.5 درجة مئوية، ففي تلك الحالة، ومع توقع مزيد من موجات “القبة الحرارية” من الصين إلى إيطاليا إلى الولايات المتحدة وكندا ستتضرر قطاعات من البناء والتشييد إلى الزراعة والتصنيع والنقل والتأمين وغيرها.

البناء والزراعة

لم يعد ارتفاع درجات الحرارة والتغيرات المناخية الأخرى يؤثران في العمل في المناطق المفتوحة، كما في قطاعات مثل التشييد والبناء أو الزراعة، إنما أيضاً في العمل داخل البيوت والمكاتب، وبحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية فإنه بحلول عام 2030 سيخسر العالم سنوياً نسبة اثنين في المئة من ساعات العمل الإجمالية في الاقتصاد العالمي، وذلك إما نتيجة صعوبة العمل في الخارج نتيجة الحرارة المرتفعة أو بطء وتيرة العمل بسبب الحر وانخفاض الإنتاجية.

ويقدر مدير الصمود المناخي في مجموعة “سي 40” ساشين بويتي أن هناك حالياً 200 مليون شخص في مدن العالم المختلفة يتعرضون لخطر ارتفاع درجات الحرارة، ويتوقع أن يتضاعف هذا العدد ثمانية أضعاف بحلول عام 2050.

حسب أرقام منظمة العمل الدولية فإن العاملين في المناطق المفتوحة والمكشوفة في درجات الحرارة العالية، مثل ما في قطاع البناء والزراعة، هم الأكثر عرضة لخطر الموت أو الإصابة أو المرض وانخفاض معدلات الإنتاجية، وما بين عامي 1992 و2016، توفي 285 من عمال البناء والتشييد نتيجة ارتفاع درجات الحرارة.

وفي قطاع البناء لا يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على العاملين فحسب بل على مواد البناء وعمليته أيضاً، فحديد التسليح يتعرض للتمدد والالتواء في ظل درجات الحرارة العالية، كما أن الخرسانة لا يمكن صبها في ظل درجات الحرارة العالية، مما يتطلب خلطها وصبها إما في الليل أو الصباح الباكر، وكل ذلك يعني زيادة في الكلفة بشكل كبير.

أما في قطاع الزراعة فلا يقتصر الضرر من ارتفاع درجات الحرارة على البشر العاملين في المزارع والحقول، بل أيضاً يؤثر في المزروعات ومحاصيلها، ولعل القرار الأخير للهند بحظر تصدير الرز نتيجة تضرر المحاصيل بسبب الأمطار الصيفية مؤشر آخر إلى تبعات التغير المناخي الذي لا يقتصر على ارتفاع الحرارة فقط على الاقتصاد الزراعي.

كما أن ارتفاع درجات الحرارة يضر بالمحاصيل أيضاً، فحسب أبحاث “المجلس الأطلسي” فإن محصول الذرة، أكبر المحاصيل الزراعية في الولايات المتحدة، يخسر ما يصل إلى 720 مليون دولار سنوياً نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، ويتوقع أن تصل تلك الخسائر بحلول عام 2030 إلى 1.7 مليار دولار.

التأمين والتكيف

بالطبع تتضرر بقية قطاعات الاقتصاد بما فيها التصنيع وغيره بارتفاع درجات الحرارة مع أنها ليست بالضرورة في أماكن مفتوحة ومكشوفة، وعلى هامش كل تلك القطاعات، هناك قطاع التأمين الذي قد يضطر إلى رفع أقساط التأمين لتعرضه لمطالبات كبيرة عن كل ما هو مؤمن عليه، إذا تعرض لأضرار نتيجة ارتفاع درجات الحرارة أو التغيرات المناخية الأخرى.

وتنقل “فايننشال تايمز” عن مسؤول التأمين في شركة “برايس ووتر هاوس كوبر” للاستشارات محمد خان، قوله إن تقلب المناخ “سيغير من طريقة عمل القطاع في تعامله مع المخاطر من ناحية إدارتها وامتصاص تبعاتها”.

طبقاً لبيانات شركة إعادة التأمين الكبرى “سويس ري” ففي السنوات الخمس المنتهية بعام 2022 بلغت خسائر قطاع التأمين من أضرار الكوارث المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة، مثل تدهور المحاصيل نتيجة الجفاف أو أضرار الحرائق على الممتلكات، نحو 46.4 مليار دولار، وذلك مقابل خسائر بقيمة 29.4 مليار دولار في السنوات الخمس السابقة.

ومع توقع استمرار ارتفاع درجات الحرارة، واستمرار الأضرار على القطاعات الاقتصادية المختلفة، سيتعين على العالم أن يتكيف مع هذا الوضع المستمر، فعلى سبيل المثال سيكون على المصانع والمستودعات مراعاة طلاء أسطحها باللون الأبيض العاكس للحرارة وزراعة الأشجار المظللة حول مبانيها بقدر كاف.

كما أن أنواع الخرسانة ومواد رصف الطرق وغيرها من مدخلات الإنشاء والبناء الحالية لن تكون صالحة في المستقبل لأنها تمتص الحرارة وتحتفظ بها، بالتالي سيتعين التكيف مع الأوضاع الجديدة بخامات ومواد أخرى أقل امتصاصاً للحرارة والاحتفاظ بها، ثم إنه سيكون على العالم أن يتكيف مع استمرار ضعف الإنتاجية في العمل المرتبط بارتفاع درجات الحرارة، يستوي في ذلك العمل في المناطق المفتوحة والمكشوفة مع العمل في المباني والمصانع ومن المنزل.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى