هل ما زال السلام خياراً مُتاحاً؟
كتب عمر عليمات, في “الدستور” :
في ظل الحرب المستعرة في غزة، وما خلفته من واقع جديد أعاد الصراع إلى مربعه الأول، تُثير مسألة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تساؤلاتٍ عميقة حول جدلية الحل المستدام للمواجهة المستمرة منذ عقود، فقد باتت خيارات السلام تبدو بعيدة المنال، خاصة مع التطورات الأخيرة وما نتج عنها من عودة لذات التفكير الذي حكم الطرفين في أربعينيات القرن الماضي.
اليوم وبكل وضوح هناك قناعة لدى طرفي الصراع ومعهم غالبية الجيل الذي لم يشهد ويلات النكبة والنكسة بأن الحلّ المُباشر غير مُمكن، وهذه القناعة مُغلفة بِطبقة سميكة من الشكّ والتوجس من المُستقبل.
اسرائيلياً، لم يعُد يخفى على أحد أن مَن يحكم تل أبيب الآن يقاوم لكل بشراسة أي حديث عن دولة فلسطينيةً مستقلة، والسلوكيات الإسرائيلية تعزز هذا الاعتقاد بشكل قوي، فانتشار المستوطنات في الضفة الغربية وتوسعها المستمر، وإضعاف السلطة الفلسطينية، ومحاولة فرض واقعٍ جديد يُعزز من السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وحرب الإبادة الجماعية في غزة، وغياب الإرادة الحقيقية لتقديم التنازلات، كلها عوامل تُؤكّد رفض إسرائيل للحل القائم على التسوية السلمية، وتجاهل تطلعات الشعب الفلسطيني في الاستقلال والتحرر.
هذه الرؤية المتشائمة لها جذور وتستند إلى عوامل صلبة أهمها عقيدةحزب الليكود الذي يُشكل قلب الائتلاف الحاكم، فقد بُني هذا الحزب على فكرة «أرض إسرائيل التاريخية» التي تُعارض من حيث المبدأ تأسيس دولة فلسطينية مُستقلة، ويزداد هذا التشاؤم مع وصول الأحزاب الدينية المُتطرفة إلى الحكم، وتزادي قوتها إلى الدرجة التي تشكيل فيها حالياً الرافعة الرئيسية للحكومة.
هذا الاتجاه، ليس وليد اللحظة، أو نتيجة أحداث 7 أكتوبر بل له امتداد تاريخي يعود لسبعة عقود، فقد أُصّلت هذه الرؤية في أفكار بن غوريون، مؤسّس إسرائيل، الذي اعتقد بأنّ هُناك هُوّة عميقة تفصل بين الطرفين لا يمكن سدّها، وانّ الممكن هو إدارة الصراع بدلاً من محاولة حلّه، وقد تبلورت هذه الفكرة على مر الأعوام لتصبح مُعتقداً في أوساط واسعة من الشعب الإسرائيلي، وليس فقط في أحزاب اليمين، وما يغذي قوّة هذا المُعتقد هو الأحزاب الدينية المُتطرفة إلى جانب الليكود، فكلاهما يُعارض بشكل قاطع تأسيس دولة فلسطينية، يؤمن بضرورة السيطرة الكاملة على أراضي «يهودا والسامرة» أي الضفة الغربية.
على الطرف الآخر، يواجه الفلسطينيون صعوبة كبرى في إقناع العالم بأنّ قيام دولة فلسطينية يمثل ضرورة حيوية لضمان استقرار المنطقة، وأن الشعب الفلسطيني له الحق بالتحرر والاستقلال، وما يعقد الموقف الفلسطيني وجود اللوبي الإسرائيلي القوي في الولايات المتحدة وأوروبا، فبينما تتبنى الدول الكبرى علناً الحلّ السياسي، القائم على مبدأ «حل الدولتين» تُظهر مواقفها في الواقع تناقضاً كبيراً وتجاهلاً لالتزامها بدعم فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، فكل ما يدور اليوم ليس سوى رد فعل لارتدادات الحرب الدائرة في غزة، وليس قناعة استراتيجية يُمكن البناء عليها، خاصة مع الرؤية الإسرائيلية المناوئة للحل.
كل هذه العوامل تُظهرأنه لا يُمكن تجاهل التحدّيات الكبيرة التي تُواجه الوصول إلى حلّ سلمي لصراع مستمر منذ عقود، فمع التعنت الإسرائيلي المستند إلى قناعات دينية وتاريخية، وحالة الضعف التي تعتري السلطة الفلسطينية، مع التناقض الغربي الواضح، وضغطه المرتبط بفترات زمنية وأحداث محددة فقط، دون الدخول في جوهر الصراع ومسبباته، يُصبح مستقبل السلام مُبهماً مُثيراً للقلق، خاصة مع الفظائع والتدمير الذي تُخلفه حرب غزة.
ولعل التساؤل المنطقي اليوم، هل ما زال السلام خياراً مُتاحاً؟ أم أنّ الواقع يُشير إلى أنّ الصراع سيستمر مع تغييرات في شكل التعبير عنه؟ يُمكن القول أنّ السلام غير مُمكن في ظل المعطيات السابقة، إلا إذا تبنى المجتمع الدولي مبادرة جدية، ومارس ضغطاً حقيقياً على إسرائيل لقبول فكرة الدولة الفلسطينية، وهذا الضغط يبدو أنه حتى الآن لم يتشكل من حيث المبدأ، فما زالت الدول الكبرى تنحاز إلى حق إسرائيل في الأمن، وتتجاهل حق الفلسطينيين في العيش بكرامة ودولة مستقلة.
الواقع يُشير إلى أنّ طريق السلام ممتلئ بالعوائق والحواجز،وأنّ الحللم يُصبح أكثر وضوحاً من الماضي، بل أصبح أكثر تعقيداً وغموضاً، فلا سردية «يهودا والسامرة» خف بريقها عند الإسرائيليين ولا العالم وصل إلى قناعة بأن لا استقرار في الشرق الأوسط إلا بحل القضية الفلسطينية، باختصار يبدو أن منطقتنا سيبقى فيها الوضع على ما هو عليه فما أن تهدأ عاصفة حتى تبدأ أخرى أعنف وأقوى من سابقتها.