اقتصاد ومال

هل تطلق “بريكس” عملتها المشتركة الجديدة أم تناور الدولار؟

مع أنه ليس هناك تأكيد على أن قمة دول “بريكس” التي تستضيفها جنوب أفريقيا في الـ22 من أغسطس (آب) الجاري ستناقش إطلاق عملة موحدة لدول المجموعة أم لا، إلا أنه من المؤكد أن تعزيز التعامل بين دول المجموعة بعملاتها المحلية سيكون بنداً مهماً على جدول الأعمال. فتجمع الدول الخمس الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، تجمع اقتصادي ربما أكثر منه سياسي.              

كان أول من أشار إلى مناقشة القمة طرح عملة موحدة هو سفير جنوب أفريقيا لدى “بريكس” أنيل سوكال الشهر الماضي.

وفي مقابلة صحافية بعد تصريح سوكال، أكد نائب رئيس الوزراء الروسي أليكسي أوفرتشك أن “مجموعة بريكس تناقش في قمتها بجنوب أفريقيا طرح عملة موحدة”.

ألا أن سوكال عاد وتراجع عن تصريحاته، قائلاً للصحافيين الشهر الماضي “لم يكن هناك أي نقاش حول عملة موحدة لبريكس وليست على جدول الأعمال”، بحسب ما نقلت عنه وكالة “رويترز”، لكن الدبلوماسي الجنوب أفريقي أشار إلى أن الدول الخمس في المجموعة ستستمر في جهودها للابتعاد عن الدولار الأميركي في تعاملاتها، مضيفاً أن “ما قلناه وما نحن مستمرون في تعزيزه هو التجارة بالعملات المحلية وتسوية المعاملات بالعملة المحلية”.

وسواء نوقشت فكرة طرح عملة موحدة لدول المجموعة أم لا في قمة هذا الشهر في جنوب أفريقيا، لكن من المؤكد أن بحث الابتعاد أكثر من الدولار الأميركي في التعاملات بين دول المجموعة بعضها بعضاً ومع شركائها بغير الدولار سيعني مزيداً من تراجع أهمية العملة الأميركية وهيمنتها العالمية.

أهمية “بريكس”

منذ أول قمة لمجموعة “بريكس” في 2009، التي اشتق اسمها من الحروف الأولى للدول الأربع التي أسستها وهم (البرازيل وروسيا والهند والصين)، إذ ينظر إليها العالم على أنها القوة الاقتصادية الصاعدة سريعة النمو التي يمكن أن تغير وضع الاقتصاد العالمي.

وفي العام التالي 2010 انضمت جنوب أفريقيا للمجموعة كي تمثل كل القارات الرئيسة على الأرض فيها، وتضم الدول الخمس أكثر من ثلث سكان الكرة الأرضية.

بنهاية الربع الأول من هذا العام أصبحت دول “بريكس” تشكل ما يصل إلى نسبة 31.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بينما انخفض نصيب اقتصادات دول مجموعة السبع الغنية إلى نسبة 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متوقعاً أن تشكل اقتصادات دول “بريكس” أكثر من نصف الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030.

قبل عامين وصل الناتج المحلي الإجمالي لدول “بريكس” مجتمعة إلى 26.03 تريليون دولار، وهو ما يزيد على حجم الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاد بالعالم في الولايات المتحدة.

بالطبع لدى الصين الاقتصاد الأكبر، فهو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، بناتج محلي إجمالي يقارب 17 تريليون دولار، بينما بقية دول “بريكس” فاقتصاداتها أصغر بناتج محلي إجمالي أقل من 3 تريليونات دولار لكل منها.

إلى ذلك ستناقش قمة جنوب أفريقيا لمجموعة “بريكس” طلبات 22 دولة للانضمام إليها، ومن المرجح أن تكون السعودية الأوفر حظاً للانضمام للمجموعة.

وفي حال توسع المجموعة لتضم أكثر من الدول الخمس، سيكون حجم نصيبها من الاقتصاد العالمي أكبر.

ومن شأن ذلك أن يوسع نطاق تعاملات تلك الدول بعيداً من الدولار الأميركي، سواء بالعملات المحلية أو حتى بالتفكير في إطلاق عملة موحدة.

تطورات تراجع الدولرة

زادت وتيرة ابتعاد دول كثيرة عن التعامل بالدولار الأميركي في العام الأخير عقب العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب على روسيا، وتضمنت منذ البداية تجميد أصول روسيا الخارجية المقيمة بالدولار التي تزيد على ثلث تريليون دولار.

ويقول المدير السابق لصندوق الاستثمار “فيديليتي فند” كريس غاليزيو في مقابلة مع مجلة “فورشن” هذا الأسبوع  “سيسجل اليوم الذي استولت فيه الولايات المتحدة على أصول الاحتياطات الروسية في التاريخ على أنه يوم مماثل لما حدث عام 1944 (بريتون وودز) وما حدث عام 1971 حين ألغى ريتسارد نيسكون قاعدة الذهب”.  وأضاف إنه “تحول في مسيرة العملة، إذ أظهر ذلك اليوم لكل بلد حول العالم أن احتياطاتها التي تحتفظ بها بالدولار الأميركي يمكن أن تصادر في أية لحظة بحسب رغبة الحكومة الأميركية”.

وبعد تجميد أصول روسيا الخارجية العام الماضي من أميركا والدول الغربية وحظر تعامل روسيا مع نظام المراسلات المالي العالمي (سويفت) لجأت روسيا إلى التعامل في مبادلاتها الخارجية بالعملات المحلية في مقابل الروبل الروسي، ودفع ذلك أيضاً الصين إلى العمل على زيادة حصة عملتها اليوان من المعاملات التجارية الدولية.

إلا أن جهود دول “بريكس” للابتعاد عن الدولار الأميركي بخطوات ثابتة لم تتوقف منذ تكوين المجموعة قبل نحو عقد ونصف عقد من الزمن، ففي عام 2010 جرى إطلاق “آلية التعاون بين البنوك لدول بريكس” بهدف تسهيل المدفوعات بين بلدان المجموعة بالعملات المحلية لتلك الدول، كما بدأت دول “بريكس” في تطوير نظام “بريكس باي”، وهو نظام مدفوعات بين دول المجموعة تتم المعاملات عبره من دون تحويل العملات المحلية للدولار ويتم حسم سعر الصرف مباشرة بينها.

وفي عام 2014 أطلقت دول المجموعة بنك التنمية الجديد، الذي ينص اتفاق تأسيسه على توفير التمويل بالعملات المحلية للدول الأعضاء، إلا أنه حتى هذا العام كان التمويل في أغلبه بالدولار، ووصل حجم التمويل بالعملات المحلية إلى نسبة 22 في المئة من محفظة البنك الائتمانية، ويستهدف الوصول بتلك النسبة إلى نحو 30 في المئة بحلول عام 2026.

في غضون ذلك أطلقت دول مجموعة “بريكس” مبادرة لتأسيس مؤسسة تصنيف ائتماني بعيدة من المؤسسات الغربية الثلاث الكبرى (موديز وستاندرد أند بورز وفيتش)، لكن تلك المبادرة لم يكتب لها النجاح حتى الآن، مثلها في ذلك مثل مبادرة إنشاء كابل بحري للاتصالات خاص بـ”بريكس” التي لم تتحقق حتى الآن.

وعلى رغم عدم تحقق المبادرتين إلا أن توسع المجموعة بانضمام دول أخرى غير الدول الخمس يمكن أن يعيد إحياء تلك المبادرات، إلى جانب تعزيز الخطوات على صعيد البعد من الدولرة.

الربط بالذهب

تعد البرازيل وروسيا أكثر المتحمسين لإطلاق عملة موحدة لدول مجموعة “بريكس”، ربما على غرار العملة الأوروبية الموحدة للاتحاد الأوروبي (اليورو) التي أطلقت مطلع القرن الحالي، بل إن بعض التقارير تكهنت باسم العملة المتوقعة وأنه سيكون “بريك”.

ومنذ بدأ الحديث عن عملة مجموعة “بريكس”، وفي إطار البعد من الدولرة، تكرر التأكيد أن قيمتها ستكون مربوطة بالذهب.

وأثار ذلك كثيراً من الجدل إذ ألغيت قاعدة ربط العملات بالذهب منذ مطلع السبعينيات ومن غير المؤكد جدوى العودة لتلك القاعدة مجدداً، خصوصاً مع محدودية الذهب حجماً والحاجة الدائمة إلى التوسع في توفير السيولة للتمويل، أي زيادة حجم النقد المتداول.

ومنذ إلغاء قاعدة الذهب لم تعد البنوك المركزية في حاجة إلى زيادة نصيب الذهب من احتياطاتها كسند لعملتها الوطنية، إلا أن إقبال تلك البنوك في الدول التي تخوفت بعد الإجراء الأميركي بتجميد احتياطات روسيا على شراء الذهب زاد في العام الأخير.

مع ذلك يظل الدولار يحتل المكانة الأولى كعملة احتياط عالمية، وأيضاً كعملة حسم مبادلات تجارية وغيرها حول العالم.

ومع أن اليورو الأوروبي أصبح يمثل نحو خمس تلك التعاملات بعد طره بنحو ربع قرن، إلا أنه لم يتمكن بعد من إزاحة الدولار عن الصدارة، وصحيح أن نصيب اليوان الصيني في التعاملات الدولية ارتفع من نسبة اثنين في المئة إلى أقل قليلاً من خمسة في المئة في العام الأخير، إلا أن تلك الزيادة تعود في معظمها لحجم التعاملات بين الصين ورسيا بالعملات المحلية بين موسكو وبكين باليوان والروبل.

لكن ربط العملة المحتملة لمجموعة “بريكس” ليس العقبة الوحيدة أمام إطلاقها، حتى لو لم يكن ذلك في قمة جنوب أفريقيا هذا الشهر كما ترغب البرازيل وروسيا.

فهناك عقبات أخرى تتعلق بالنظام المالي والنقدي لكل بلد من بلدان المجموعة، ناهيك بالحسابات السياسية والاستراتيجية لكل دولة التي تتجاوز السياسات المالية والنقدية.

إلى ذلك يظل من شبه المؤكد، بحسب كثير من الآراء والتحليلات، أن مسيرة ابتعاد دول “بريكس” من التعامل بالدولار الأميركي مستمرة وفي تصاعد، مثلها في ذلك مثل دول أخرى عديدة حول العالم بدأت تفقد الثقة في أن الدولار هو العملة الآمنة تماماً كمخزن للثروة خصوصاً بعد تجميد الاحتياطات الدولارية الروسية.

وسيزيد ذلك من وتيرة تآكل مكانة الدولار كعملة عالمية أولى، وربما معها أيضاً تراجع دور أميركا الخارجي في العالم، فعلى مدى ربع القرن الأخير انخفضت الاحتياطات الأجنبية لدول العالم بالدولار الأميركي من نسبة 75 في المئة إلى ما يزيد قليلاً على نسبة 55 في المئة. وهي نسبة مرشحة للتراجع أكثر، سواء أطلقت مجموعة “بريكس” عملتها الموحدة أم واصلت الابتعاد من الدولرة فحسب.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى