رأي

هل الفرنسيون كسالى؟

كتب روبرت زاريتسكي لصحيفة “نيويورك تايمز”:

شهدت فرنسا موجةً من الإضرابات والمظاهرات مؤخراً – محتجون كبار وشباب، ريفيون وحضريون، تقدميون ومحافظون، موظفون وعمال… جميعهم خرجوا إلى الشوارع للاحتجاج على مساعي حكومتهم الرامية إلى تمديد سن التقاعد من 62 إلى 64. 
كل هذا بدا مشهداً مألوفاً. غير أنه بينما تتعبأ النقابات والأحزاب السياسية استعداداً لما قد يكون موجة أعظم من الإضرابات يوم الثلاثاء، بوسعنا أخذ استراحة من يوم عملنا من أجل إلقاء نظرة على تاريخ البلاد. فهل يتكاسل الفرنسيون حقاً، مثلما تقول الصور النمطية؟ الواقع أن جداول الإحصائيات تقدِّم جواباً مفاجئاً. إذ على الرغم من أن الإنتاجية الإجمالية للعمال الفرنسيين أقل قليلاً من إنتاجية العمال الأميركيين الإجمالية، إلا أنها تُعد أعلى بكثير من إنتاجية نظرائهم الأوروبيين. بل إنها أعلى من متوسط إنتاجية مجموعة السبعة الكبار. وعلاوة على ذلك، فإن الفرنسيين يفّندون الكليشيهات الشائعة – وساعات العمل الـ35 في الأسبوع التي ينص عليها القانون في البلاد – عبر الاشتغال ساعات أكثر في الأسبوع مقارنةً مع نظرائهم الألمان المشهورين بجدهم وكدحهم. 
غير أن نقاط الانعطاف الثقافية تشير إلى جواب مفاجئ آخر. أجل، إن الفرنسيين كسالى أيضاً، ولكن ليس بالطريقة التي نعتقدها على نحو ينم عن الكسل.
ولنتأمل هنا ميشيل دي مونتين، الذي تقاعد عام 1571 في سن الـ38، بعد أن ضاق ذرعاً بوظيفته كقاضٍ في مدينة بوردو. دي مونتين اعتكف في مكتبته، وكتب السبب الذي حداه إلى ترك وظيفته على جدار مكتبه فقال: «لقد سئمتُ من عبودية المحاكم، ولهذا، أنا عاقد العزم على التقاعد حتى أقضي ما تبقى من حياتي، بعد انقضاء أكثر من نصفها… والتفرغ لحريتي وطمأنينتي وراحتي». 
ثم راح يؤلّف جنساً جديداً تماماً من الكتابة – المقالة – التي أطلق من خلالها تجربة فريدة في فحص الذات. غير أنه اختار القيام بذلك باسترخاء: «لا بد أن أطلب الأمور بهدوء وتؤدة»، هكذا كتب في مذكراته. وقال أيضاً: «إن ما أقوم به بشكل سهل وطبيعي ما عدتُ أستطيع القيام به إن أمرتُ نفسي بالقيام به من خلال أمر صارم وصريح». الرجل الذي غيّر طريقتنا في القراءة والكتابة كان غير جاد على نحو جاد إذ قال: «إذا صادفتُ صعوبات في القراءة، فإنني لا أقضم أظافري قلقاً وتحسراً، بل أتركها هناك». مضيفاً: «إنني لا أفعل أي شيء من دون سرور». 
بعد بضعة قرون على ذلك، أثبت مواطنٌ فرنسي آخر أنه مجدٌّ أيضاً في ما يتعلق بالكسل. المفكر الراديكالي بول لافارج مشهور اليوم بكتيب نشر في 1880 بعنوان «الحق في الكسل». وعلى نحو غير مفاجئ، كان لافارج يعتمد على الدعم المالي لشخص آخر هو: فريدريك انجل، الذي قام بالشيء نفسه مع صهر لافارج، كارل ماركس. 
وفي تطور غريب، ظلّ مال لافارج ينفد أو يدخل إلى السجن، لأنه كان مشغولاً بالدفاع عن حق العمال في الكسل. ويقول لافارج إن طبيعتنا هي الراحة والاسترخاء. غير أن الصناعيين والإيديولوجيين، ولكي يتمتعوا بحياة اليسر والرخاء، رسّخوا فينا الإيمان بـ«الحق في العمل». ونتيجة لذلك، يقول لافارج، خانت البروليتاريا: «التي أفسدتها عقيدةُ العمل، غرائزها ورسالتها التاريخية». «فكان عقابها فظيعاً وقاسياً. والحال أن كل مشاكلها الفردية والاجتماعية هي ناجمة عن شغفها بالعمل». وعلى نحو متوقع، لم يُنظر إلى هذا الأمر بعين الرضا سواء في فردوس العمال في روسيا ستالين، التي شجبت تبرير لافارج للكسل، أو من قبل المؤرخين الماركسيين، الذين وصفوه بـ«الساعي وراء المتع». 
وبعد نحو قرن على ذلك، أنتجت فرنسا مدافعاً آخر عن تجنب العمل هو المنظِّر المؤثر فريديريك لوردون. في كتابه «الرأسمالية.. شغفٌ وعبودية»، الذي صدر في 2010، حاجج لوردون بأن مشغِّلي اليوم، وبدلاً من أن يردّوا على مقاومة العمال باستعراض للقوة، يقومون عوضاً عن ذلك باستحضار عرض للصداقة. وحذر لوردون من أنهم ودودون لدرجة أننا نبتلع وعدهم بأن العمل «مصدرُ سرورٍ فوري». 
كان لوردون بمثابة مرشد روحي لاحتجاجات «الانتفاض ليلاً» في 2016، عندما احتل المتظاهرون الأماكن العامة عبر فرنسا تعبيراً عن معارضتهم للإصلاحات العمالية التي اقترحتها الحكومة الاشتراكية آنذاك. وكان من بين مطالبهم تحديد دخل أساسي عام. وهو ما كان سيدعم، عملياً، الكسل. 
وقبل بضعة أشهر، أثارت ساندرين روسو، العضو البارز في حزب «الخضر» الفرنسي، ضجةً كبيرةً حين دعت إلى حق العامل في الكسل. وإلى جانب تخوفات بشأن ما إن كانوا يستطيعون مواصلة وظائف تكلّف أجسامهم وأرواحهم ثمناً باهظاً حتى منتصف الستينيات من أعمارهم، يتقاسم متظاهرو فرنسا أيضاً القناعة التي تحدثت عنها روسو ولوردون ولافارج ومونتين. إن أفقنا لا يحمل أكثر من «العمل أطول وأكثر»، تقول محتجة في العشرينيات من عمرها، مضيفة أن التقاعد المبكر، ليس من أجل الراحة فقط ولكن من أجل العمل التطوعي أيضا، بات يبدو بعيداً بشكل متزايد. 
وقد يستهجن الأميركيون مثل هذه التصريحات. ولكننا إن أخذنا استراحة قصيرة للتفكير، ألن يمثِّل ذلك قليلاً من الكسل من جانبنا؟

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى