مفاوضات البرنامج النووي الإيراني ومستقبله

كتب د. خليل حسين في صحيفة الخليج.
أ حاطت البرنامج النووي الإيراني العديد من التعقيدات والمصاعب التي تبدأ بظروف إيران الجيوسياسية والتي لا تنتهي بغاياته وأهدافه المعلنة وغير المعلنة، وفي واقع الأمر حاولت طهران منذ إطلاق برنامجها إبان نظام الجمهورية الإسلامية، الإصرار على متابعة البحث العلمي والتطور التكنولوجي على خلفية برنامج نووي لأغراض مدنية، وهو حق طبيعي كفلته المواثيق والاتفاقات الدولية، إلا أن ثمة اعتقاداً شائعاً بأن هذا البرنامج قد انحرف إلى تماس ذي طابع عسكري، وعزز هذا الاعتقاد الوضع في الشرق الأوسط الذي يضج بصراعات لا حدود لها، والتي دخلت طهران في صميمها ولو بطرق غير مباشرة عبر أذرع متعددة أطلقت أعمالها في مناطق شديدة الحساسية، وأبرزها المتصل بالصراع مع إسرائيل، الأمر الذي وضع البرنامج في عين العاصفة بصرف النظر عن ماهيته ونهاياته.
استمرت إيران في مفاوضات متعددة الطرف لأكثر من عقدين من الزمن، كان آخرها جولة المفاوضات الست غير المباشرة مع الولايات المتحدة وبرعاية من سلطنة عمان في جولاتها الخمسة والتي علقت في السادسة منها في روما العاصمة الإيطالية. وبعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، ونتيجة لما جرى وما ظهر من موازين قوى، تُطلق حالياً رؤى جديدة لمفاوضات بصرف النظر أين تعقد إن في أوسلو عاصمة النرويج أو غيرها، فإن مبدأ القبول بالمفاوضات له دلالاته التي تؤشر إلى سياقات ربما تكون مختلفة عن السياقات السابقة، وما كان يمكن أن تفضي إليه من نتائج مختلفة.
تنطلق طهران اليوم وسط وقائع مغايرة، فالبرنامج الذي استندت إليه قد تضرر بفعل الحرب الأخيرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وبصرف النظر عن حجم الضرر ومستوياته، ثمة حديث غربي وبمؤشرات إيرانية تحديداً، عن أن البرنامج يستلزم سنوات للعودة لما كان عليه، إذا توفرت الإمكانات والقدرة على المتابعة والإفلات من الرقابات الدولية التي ستكون أشد من الرقابات السابقة، وهو أمر سيعقّد الأمور تلقائياً من الوجهة الإيرانية فعلياً وعملياً، وفي أفضل الأحوال لن تتمكن من الوصول إلى نتائج محددة، إلا وفقاً لمسارات تحددها البيئة الدولية المتابعة، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن مريحة لطهران.
ما قبل حرب الاثني عشر يوماً، ثمة رفض دولي واضح لما وصلت إليه مستويات التخصيب الإيرانية التي بلغت حدود الستين في المئة، وهو مستوى عال يلامس الانتقال إلى متطلبات البرامج العسكرية، وثمة اعتراف بأن طهران توصلت إلى تخصيب نحو 400 كيلوغرام، وهو كما يشاع ما زال مخبأ ولم يطله القصف الأمريكي الأخير، إضافة إلى كلام عن وجود مفاعلات غير معلن عنها، ما يشكل خطوة في المجهول من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية.
من الناحية المبدئية، وافقت إيران على الدخول في مفاوضات مع الجانب الأمريكي، شرط عدم تجديد قصفها وبضمانات محددة لما يمكن التوصل إليه لاحقاً، لا سيما أن خروج واشنطن من الاتفاق السابق إبان ولاية دونالد ترامب الأولى ما زال ماثلاً في العقل الإيراني، وعليه فإن مخاوف طهران تبدو جدية وسط إمكانات محدودة للمضي في سياقات تفاوضية تحددها وفقاً لما تريده.
في المفاوضات الأخيرة التي عقدت في روما بتاريخ 23 مايو/ أيار الماضي، أقصى ما طرح هو العودة لأسس البرنامج المدني المتفق عليه وتحت رقابات دقيقة، فيما يبدو الأمر مغايراً، فالتخصيب خارج إيران وتحت رقابة دولية محددة، الأمر الذي رفضته طهران سابقاً، وليس معلوماً إلى الآن حدود ما يمكن أن توافق عليه حالياً.
في الواقع الحالي، لا تملك إيران الأوراق السابقة التي تمكّنها من فرض ما تريد، أو التفاعل في أُطر مفاوضات يمكن المساومة فيها، وبصرف النظر عن نتائج الحرب الأخيرة الفعلية، لا إمكانية للعودة إلى الوراء، فالعقوبات والحصار الاقتصادي أديا إلى وضع لا تحسد عليه، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه تتطلب إمكانات غير متوفرة، ما سيضاعف من تعقيدات الوضع الإيراني.
إضافة إلى ذلك، لم تعد هناك ظروف دولية وشراكات أو حتى تحالفات إلى جانب طهران، فعلى سبيل المثال لقد نسجت طهران شراكات استراتيجية مهمة مع بكين وموسكو، لكنها لم تتمكن من ترجمتها عملياً في الحرب الأخيرة، واكتفت مواقف الدولتين بالإدانات من دون الوصول إلى دعم ذي مستوى يغيّر أو يعدّل موازين القوى.
إن مستقبل البرنامج النووي الإيراني مرهون بمتطلبات غير متوفرة حالياً، وإيران بحاجة لاستراتيجيات مختلفة تراعي ظروفها الذاتية والموضوعية، فهي أولاً مطالبة من الناحية العملية بالعودة عن قرارها تعليق العمل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتأكيد على التمسك بالاتفاقية الدولية لعدم انتشار الأسلحة غير التقليدية، وهو ما يؤسس لبيئة قانونية ذات طابع دولي يمكن الارتكاز عليه والانطلاق منه في سياق المفاوضات.
إن المتغيرات الحاصلة في الشرق الأوسط، بدءاً من الزلزال السوري وما تبعه في لبنان والعراق واليمن من ارتدادات، أثّرت بشكل رئيسي في وضع إيران الإقليمي وبالتالي سياساتها وبرامجها وقدراتها، وفي هذه الحالات من المفيد أن تتحلى إيران بالواقعية السياسية لتفادي الانزلاقات الخطرة.



