رأي

مصر ما بعد الصفقة!

كتب مدحت نافع في صحيفة الشروق.

فى عصر التحوّلات العالمية الكبرى؛ من تغيّر المناخ، وانتقال الطاقة، وحروب التجارة وسلاسل الإمداد، وصراع أشباه الموصلات، والتهافت على تدفقات أقل لرءوس الأموال الأكثر سخونة.. بات من المستحيل أن تحافظ أية دولة فى العالم على حالة من السكون أو الاستقرار عند وضعية اللاحركة. الصفقة الشهيرة المعروفة بصفقة رأس الحكمة ألقت حجرًا صغيرًا فى بحيرة الاقتصاد المصرى الساكنة. منحت الصفقة مصر فرصة جديدة للخروج من أزمة شح العملة الصعبة، وتداعياتها المؤلمة على تلبية احتياجات المواطنين، وسداد الالتزامات المتراكمة المستحقة للدائنين والمستثمرين. 

على أثر الصفقة، تمكّنت البلاد من تحرير ما قيمته ثمانية مليارات دولار من السلع المتراكمة فى الموانئ، والتى أدى تراكمها عبر الشهور إلى نقص المعروض السلعي، وارتفاع الأسعار بشكل متسارع. كذلك أمكن تحريك سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل الجنيه، بنسبة لا تقل عن 55%، ما ترتب عليه استعادة بعض تدفقات الأموال الساخنة التى فقدتها مصر منذ مارس 2022. كما بدأت فى استعادة تحويلات العاملين فى الخارج التى انخفضت بنحو 30% خلال العام السابق. 

على صعيد آخر، تحركت بعض الاتفاقات المجمّدة مع مؤسسات التمويل الدولية، واستثمرت مصر تشديدها النقدى (رفع أسعار الفائدة) وتحريكها لسعر الصرف لزيادة قيمة قرض صندوق النقد الدولي، واجتذاب مزيد من التدفقات من الاتحاد الأوروبى والبنك الدولي.. وترتب على ذلك تغير النظرة المستقبلية لمصر من سلبية إلى إيجابية، فى تقييم صادر عن مؤسستى تصنيف ائتمانى دوليتين. 

هذه الثمار الجيدة لن تستمر فى التساقط بغير تكلفة، وبدون حركة مستمرة رافدة لتدفقات رأس الحكمة وأخواتها، وفى غيبة تغييرات جادة على الأرض يستشعر معها المستثمر أن تصحيح المسار الاقتصادى بات ممكنا فى مصر. ولكل ما سبق قطفه من ثمار أثره السلبى على المواطن المصري، الذى تثقله صدمات تضخمية قاسية، تحركها تلك الخطوات الإصلاحية نحو مستويات تستنزف الدخول والثروات بوتيرة غير مسبوقة، وتضاف إلى أعباء تضخمية صنعتها التحوّلات العالمية المشار إليها فى صدر المقال، فضلا عن الصراعات الإقليمية المسلّحة، التى تحيط بمختلف حدودنا، وتهدد مصادر الدخل الدولارى شبه المستقرة. 

من هنا بات أمل المصريين معقودًا على أن تعادل تلك الآثار التضخمية تدفقات كثيفة من الاستثمارات الأجنبية، التى لا يمكن أن تستدام وتثمر بشكل صحّى إلا إذا ارتدت ثوب الاستثمار المباشر، الذى ينشئ المصانع، ويستصلح الأراضي، ويوطّن ويعمّق سلاسل الإمداد، ويوظّف العمالة.. ويخلق قيمة إنتاجية مضافة، قابلة للتصدير وللإحلال محل الواردات، المستنزفة للنقد الأجنبى الموسّعة للعجز الخارجى المزمن. 

  •  •

الصفقة إذن ليست طوق النجاة، ولا المخرج الآمن من الأزمات الاقتصادية المتتالية التى عانتها مصر بمحفزات خارجية، وتحت إدارة اقتصادية تقليدية وادعة، تتحرّك بأسلوب رد الفعل. فالمخرج الآمن من الأزمة يتطلب استراتيجيات وإجراءات حاسمة على مستوى الاقتصاد العيني، لزيادة وتطوير الإنتاجية وتحسين كفاءة الإنتاج. وقد ثبت بالدليل القاطع أن المجموعة الاقتصادية فى الحكومة المصرية الحالية لم تتمكّن من تحقيق تلك المستهدفات، رغم بقائها فى السلطة مدة طويلة! الأمر الذى فاقم من تداعيات الأزمات والضربات العالمية، وقلل من قدرة مصر على امتصاصها أو تحويلها إلى فرص يمكن استغلالها. 

الوتيرة التى تعمل بها تلك المجموعة أبطأ من اللازم. وزارة الزراعة -مثلًا- كانت تعكف على حل أزمة محصول قصب السكر منذ سنوات، لكن الحلول المقترحة لم تدخل أبدًا حيز النفاذ رغم بساطتها، إلى أن تحوّلت أزمة المحصول إلى أزمة عنيدة فى منتجى السكر والورق. وقد ضربت هذا المثال لأنى كنت شاهدًا على مولد التحرّك الحكومى فى هذا الاتجاه، وكتبت مقالًا بعنوان «مقومات النهوض بمحصول قصب السكر فى مصر» نشر بجريدة الشروق فى 18 مايو 2021، وقد شهد المقال تحرّكًا من قبل السيد وزير الزراعة لتفعيل اللجنة المعنية بهذا الموضوع، بغية تنفيذ المقترحات المذكورة فى المقال، وحتى يومنا هذا لم يتحقق شىء يذكر! 

هناك ثقل كبير فى أداء الكثير من الوزارات ذات الطابع الاقتصادي، وهناك دور مفقود لوزارة الاقتصاد، لم تملأ فراغه وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، التى عجزت عن التنبؤ بالصدمات الاقتصادية المحلية والخارجية على نحو يساعد فى إدارة المخاطر عوضًا عن إدارة الأزمات. كذلك لم توفّق وزارة التجارة والصناعة فى زيادة الناتج الصناعى الذى مازال هزيلًا يداعب نسبة 16% من الناتج المحلى الإجمالي. ولم تتمكن من فض الاشتباك بين أهداف الصناع والتجّار، أو حل أزمة المصانع المغلقة والمتعثّرة. كما أن وزارة التموين والتجارة الداخلية تعمل بأدوات قديمة بالية، وتحقق الشركات التابعة لها خسائر غير مسبوقة فى التاريخ! كما تحقق أذرعها الرقابية إخفاقًا ترصده جهات رقابية أخرى، فى هيئة ضبط مخالفات وتجاوزات لا يتسع المقال لرصدها. 

أما وزارتا الكهرباء والبترول فلا يصل أثرهما إلى المواطن العادى إلا عبر ارتفاعات مستمرة فى أسعار الوقود، تنتقل إلى أسعار سائر المنتجات، وانقطاعات مستمرة فى التيار الكهربائى على خلفية اتهامات متبادلة بين الوزارتين، ونقص فى إمدادات الغاز الطبيعى إلى مستهلكه الأكبر (المتمثّل فى وزارة الكهرباء). التخطيط والتحوّط ضد تقلبات أسعار الطاقة عالميا والانتقال الجاد للطاقة فى مصر.. هى بعض المفردات الغائبة فى قاموس الوزاراتين، أو للإنصاف، هى التى تحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتخصص. انقطاع التيار الكهربى يهدد مختلف أوجه العمران وجذب الاستثمارات، ويضعف تصدير صورة الاستقرار المجتمعى والاقتصادى اللازمة لجذب تلك الاستثمارات، ولرفاهية المواطن، الذى بات يدفع فاتورة متزايدة وتكاليف كبيرة ثم لا يحصل على الخدمة المتوقعة، ولا يعرف أمدًا لما يعرف بتخفيف الأحمال! 

  • • 

لا نختزل النجاة من الوضع الاقتصادى المتأزم فى تغيير أو تعديل الحكومة، فتصحيح المسار الاقتصادى يقتضى تغيير السياسات لا الأفراد فقط. لكنّ «القرآن لا ينطق ولكن يتكلم به الرجال»، كما ورد عن الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، ولله المثل الأعلى. وعليه، فإن كثيرًا من السياسات التى يراد تغييرها لن تتبدّل إلا بعقول وسواعد مختلفة. التحديات الجديدة يلزم مواجهتها بمهارات جديدة، وكفاءات أكثر قدرة على التكيّف وامتصاص الصدمات واستثمار الفرص، والتفاوض بغرض هيكلة الديون. 

الحكومة الجديدة (أو المعدّلة) يجب أن يتمتع أعضاؤها بسجل مشرّف فى المجال المهنى والتعليمي، وبالفهم لتعقيدات الوضع الاقتصادى الدولى والإقليمى فضلًا عن المحلى.. وأن تكون لديها مهارات التفاوض لهيكلة الديون، والقدرة على إدارة محفظة أصول الدولة بكفاءة وفاعلية.. وأن تتمتع بالتجانس والتفاهم، وأن تعى بحق دور الدولة فى المرحلة المقبلة، فى ظل تعهدات تصحيح المسار ووثيقة سياسة ملكية الدولة.. وأن تتمتع بالقدرة على إعادة تصنيف مصر وفق المؤشرات الدولية، باعتبارها بيئة جاذبة للاستثمار، محققة مستويات أفضل من التنافسية والأمن الاقتصادى بمفهومه الشامل.. وأن تكون ذات إلمام بمنتجات أسواق المال قديمها وحديثها من الناحية السوقية والمؤسسية والتشريعية.. وأن تدرك تحولات الطاقة والتكنولوجيا واعتبارات تغير المناخ وحروب التجارة.. وأن تستخلص الفرص من تلك التحولات.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى