لماذا تفشل التوقعات في أسواق النفط؟
كتب أنس بن فيصل الحجي في صحيفة إندبندنت عربية.
تجارة النفط العالمية هي الأكبر ضمن كل السلع في العالم، ولا يمكن نقل البضائع بحراً أو براً من دون الاعتماد على النفط. فإذا كان قطاع المواصلات هو الهيكل العظمي للاقتصاد العالمي، فإن النفط هو الدم الذي يجري في عروقه.
يشتكي كثير من الناس من تضارب التوقعات في أسواق النفط من جهة، وفشلها من جهة أخرى. وهناك عدد كبير من المضاربين الذي دخلوا أسواق النفط ثم خرجوا منها ولم يعودوا إليها بسبب صعوبتها وكثرة تقلبها بصورة لا يمكن التنبؤ به. لماذا تختلف أسواق النفط عن غيرها من أسواق السلع؟
ببساطة، يستهلك النفط في كل دول العالم، وتصدره أكثر من 20 دولة، ومن ثم فإن أي عوامل سياسية أو اقتصادية أو طبيعية أو تقنية في هذه الدول تؤثر في أسواق النفط. كثير من هذه العوامل لا يمكن التنبؤ بها.
أدناه شرح لبعض هذه الأمور لتوضيح صعوبة التوقع في أسواق النفط، وأسباب فشل التوقعات.
الأسباب السياسية
لا شك أن هناك اتجاهات سياسية معينة بمكن التنبؤ بها، ولكن هناك أموراً سياسية كثيرة لا يمكن التنبؤ بها. ومن ثم فإنها تفاجئ المضاربين في السوق وتسهم في زيادة الذبذبة في الأسعار. إلا أن هناك أمراً يغيب عن غالبية الناس وله أثر كبير في الأسواق، وهو النتائج غير المتوقعة للأحداث السياسية، حتى للأحداث السياسية المتوقعة. هناك أدلة كثيرة على ذلك ولكن اقتصر اليوم على الحوادث التالية:
1- في وقت ارتفعت فيه أسعار النفط قليلاً بسبب الحرب على غزة، كثر الحديث حول آثارها على المديين القصير والمتوسط، إلا أن ما غيَّر الوضع في أسواق النفط هو هجمات الحوثيين على السفن وحاملات النفط. هذه الهجمات لم تكن متوقعة، ولم يستطع أي خبير توقع نتائجها إلا بعد أن أصبح تحول السفن وحاملات النفط عن البحر الأحمر حقيقة، بخاصة أن البحرية الأميركية فشلت بصورة مقصودة أو غير مقصودة في وقف هجمات الحوثيين والنتيجة ارتفاع غير متوقع في أسعار النفط.
2- بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ارتفعت أسعار النفط بصورة كبيرة على رغم عدم وجود أي نقص في الإمدادات. وسبب هذا الارتفاع هو توقع انخفاض كبير في إنتاج روسيا من 5 ملايين إلى 3 ملايين برميل يومياً، خصوصاً بعد تطبيق العقوبات الغربية على روسيا. النتيجة ارتفاع كبير في الأسعار ثم هبوط كبير خصوصاً بعد سحب الولايات المتحدة 180 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي وقيام إيران، بضوء أخضر من إدارة بايدن، ببيع نحو 70 مليون برميل من النفط العائم، وهو النفط المخزن في حاملات نفط لفترة طويلة.
3- ما يحصل الآن من تباطؤ في إنتاج النفط الصخري الأميركي كان من المفترض أن يحصل في عامي 2017 و2018 لأن الكل كان يتوقع فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية في عام 2016. في ذلك العام توصل إلى اتفاق بين دول “أوبك” وخارج “أوبك” الـ10 على ميثاق التعاون المشترك وبدأوا بتخفيض الإنتاج، إلا أن فوز دونالد ترمب المفاجئ غيَّر المعادلات كلها، فارتفع إنتاج النفط الأميركي بصورة كبيرة، ولم تنتعش الأسعار في 2017 رغم تخفيضات “أوبك”. وعندما بدأت السوق بالتوازن في عام 2018، ثم بدأت أسعار النفط ترتفع بسبب توقع قيام ترمب بإعادة فرض العقوبات على إيران، فرض ترمب العقوبات من جهة، وأعطى استثناءات لمشتري النفط الإيراني من جهة أخرى، فانهارت الأسعار بصورة مفاجئة، لدرجة أن مستشار ترمب لشوون الطاقة هارولد هام، رئيس شركة النفط المعروفة “كونتيننتال رسيورسيس”، خسر أكثر من مليار دولار في الربع الرابع من 2018.
4- نتج من حادثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة لأيام عدة، وأسهم ذلك في تخفيض حركة الطيران العالمية. كما أسهمت في عزوف كثير من الناس عن السفر في ذلك العام، فانخفض الطلب على وقود الطائرات ومنتجات نفطية أخرى، مما جعل “أوبك” تقرر تخفيض الإنتاج في ما بعد.
الأسباب الاقتصادية
يرتبط الطلب على النفط بالنمو الاقتصادي، ومن ثم فإن كل العوامل التي تؤثر في النمو الاقتصادي تؤثر في صناعة النفط بصورة مباشرة وغير مباشرة. كما أن أسعار الفائدة وأجور العمال تؤثر في كلف صناعة النفط، ومن ثم في كمية الإنتاج. هناك أمثلة كثيرة على دور العوامل الاقتصادية غير المتوقعة، نكتفي بأربعة منها:
1- أكبر حادثة مؤثرة في تاريخ صناعة النفط العالمية هي الإغلاقات التي حصلت في عامي 2020 و2021 لتفادي انتشار فيروس كورونا. هذه الإغلاقات أوقفت حركة الاقتصاد في غالب دول العالم، وحركة الشحن البري والبحري والجوي، وأغلقت عدداً كبيراً من المصانع، مما أدى إلى انهيار الطلب العالمي على النفط، وهذا أسهم بدوره بقيام دول “أوبك+” بتخفيض الإنتاج بمستويات تاريخية: 9.7 مليون برميل يومياً. لا شك أن الإغلاقات أثرت بجميع القطاعات الاقتصادية، ولكن قطاع النفط كان الأكثر تأثراً بعد القطاع السياحي.
2- ويذكر كثيرون الأزمة المالية في عام 2008 التي هوت بأسعار النفط من 147 دولاراً للبرميل إلى نحو 35 دولاراً للبرميل. في تلك الفترة أفلس عدد من شركات المضاربة بالنفط. وقبلها كانت الأزمة المالية الآسيوية في عامي 1998 و1999، التي هوت بأسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات للبرميل.
3- السبب الرئيس في تضاعف أسعار النفط بين عامي 2002 و2008 هو السياسات الاقتصادية لكبار اقتصادات العالم التي حاولت الاستفادة من موجة العولمة وقتها. فتلك الفترة هي الفترة الوحيدة في التاريخ التي تم فيها تبني سياسات داعمة للنمو الاقتصادي بحيث أنها عوضت عن أي آثار سلبية لارتفاع أسعار النفط الكبير. ففي تلك الفترة زاد الإنفاق الحكومي والعسكري باستمرار، بينما ارتفعت الدخول، وانخفضت أسعار الفائدة والضرائب والدولار، وهذا حصل في أوروبا وأميركا الشمالية والهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان.
4- وتؤدي إضرابات العمال إلى وقف إنتاج أو شحن النفط، ومن ثم نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار. نجد هذا بصورة متكررة في النرويج على سبيل المثال، ولكنه منتشر حول العالم، ومن أشهر الإضرابات المؤثرة في صناعة النفط إضراب عمال شركة النفط الفنزويلية في عام 2002، الذي نتج منه انقلاب عسكري انتهى بالفشل، ثم طرد آلاف الموظفين والمهندسين، مما ضرب إنتاج فنزويلا في الصميم ولم تستطع فنزويلا حتى الآن انعاشه. لا شك أن العقوبات الأميركية لعبت دوراً، ولكن الإنتاج كان في انخفاض لسنوات قبل العقوبات الأميركية.
الأسباب الطبيعية
تاريخ صناعة النفط مليء بالأحداث الطبيعية التي أثرت في أسواق النفط سواء من الشتاء القارس أو المعتدل أو الصيف الحار أو اللطيف إلى الأعاصير في خليج المكسيك أو العواصف الرملية في الخليج العربي أو العواصف في بحر الشمال أو حالات التجمد في غرب تكساس. إلا أن هناك حوادث تاريخية كبيرة لعبت دوراً كبيراً في تغير اتجاهات أسواق النفط منها:
1- الشتاءان المعتدلان في عامي 1998 و1999 واللذان أسهما في تعميق آثار الأزمة المالية الآسيوية وقتها.
2- إعصاري كاترينا وريتا في خليج المكسيك في عام 2005 ونتائجهما المدمرة. كما كانت هناك أعاصير أخرى في السنوات التالية منها إعصار إيفان.
3- من الحوادث المتكررة الحرائق في منطقة الرمال النفطية في شمال ألبرتا في كندا التي أوقفت إنتاج النفط في عدة مناطق هناك. كذلك الصقيع بغرب تكساس الذي خفض إنتاج النفط بصورة كبيرة في المنطقة.
4- ومن الحوادث المتكررة وقف صادرات العراق كل عام بسبب العواصف الرملية في ميناء البصرة.
5- تؤدي الزلازل إلى وقف الحركة في مناطق بأكملها ومن ثم انخفاض الطلب على النفط. وأدت الزلازل إلى وقف العمل في المفاعلات النووية اليابانية في عام 2011، ونتج من ذلك زيادة كبيرة في استهلاك النفط والغاز لاحقاً.
خلاصة القول إن هناك أسباباً كثيرة تجعل قرارات الاستثمار أو في التجارة في النفط صعبة جداً، لهذا يعزف كثيرون عن الاستثمار فيها. خطأ التوقعات شائع جداً في صناعة النفط. مشكلتنا ليست مع من تخطئ توقعاته، مشكلتنا مع من لا تتوافق توقعاته مع فرضياته، وانعدام المنطق في التوقعات أو من يختار الفرضيات ليصدر توقعات تخدم أجندة معينة.