لبنان المُقيم خرّب لبنان الاغتراب… ومُستمرٌّ في تخريبه

كتب سركيس نعوم في “النهار”: ليست جديدة هجرة اللبنانيّين إلى الخارج، ولم تكن طوعيّة أحياناً كثيرة. فـ”المذابح” التي ارتكبها الدروز والموارنة بعضهم في حقّ بعض بين أربعينيات القرن التاسع عشر وستّينياته أجبرت عدداً كبيراً منهم على الهجرة إلى بلاد الله الواسعة طلباً للأمان. والمجاعة التي عاناها مواطنو “لبنان الصغير”، أي متصرّفية جبل لبنان في الحرب العالميّة الأولى وتحديداً في أواخرها، بقرار رسميّ من والٍ تابعٍ للسلطنة العثمانيّة، دفعت قسماً كبيراً من أبنائه وغالبيّتهم كانت مسيحيّة إلى الهجرة إلى بلاد الله الواسعة أيضاً طلباً للأمان وهرباً من الموت جوعاً في منازلهم وفي زواريب وطرقات قراهم والبلدات. والحروب الأهليّة وغير الأهليّة التي عصفت بلبنان بين 1975 و1990 دفعت بدورها آلافاً مؤلّفة إلى اللحاق بإخوانهم في بلاد الله الواسعة أيضاً في العالم الجديد كما في العالم القديم. وفشل السلام الذي أرساه اتفاق الطائف بعد الحروب المذكورة، لا لعيب فيه بل لاستغلاله من الذين كُلِّفوا مساعدة اللبنانيّين على تنفيذه من أجل وضع يدهم على لبنان تمهيداً لجعله جزءاً لا يتجزّأ من دولتهم، كما لاستغلال قوّة إقليميّة كبيرة غير عربيّة طموحة وتوسُّعيّة الفشل المُشار إليه من أجل دخول المنطقة من الباب اللبناني الضيِّق وفي الوقت نفسه من باب محاربة إسرائيل والانتصار عليها.
طبعاً لم تكُن الهجرة دائماً هروباً من واقعٍ صعب اقتصاديّاً وسياسيّاً ودينيّاً، بل كانت في أيّام الرخاء والهدوء الأمني التي عاشها لبنان بين حروبه المُتقطّعة ترمي إلى تحصيل العلم والمال في آنٍ واحد، سواء في بلادٍ تُشبه لبنان من حيث فوضاها أو في بلاد العالم الأوّل، ثمّ أتت الهجرة إلى دول الخليج العربيّة التي لم تُعتبر يوماً هجرة حقيقيّة لقربها من لبنان وأيضاً لصعوبة بل استحالة الحصول على المواطنة فيها.
إلّا أنّ الواقع منذ الهجرات الأولى حتّى الآن أظهر أمرين. الأوّل عدم دقَّة مقولة أنّ اللبناني مهاجر بطبعه منذ القدم وعدم اعتبار هجرته كارثة على لبنان، إذ إنّ المُهاجرين يعودون إجمالاً. والثاني أنّ العودة الحتميّة لهؤلاء لم تحصل بدليل استيطان الملايين من أصل لبناني العالم الجديد وعدم عودة إلّا أقليّة صغيرة منهم إلى الوطن. كما أنّ الاستيطان الدائم لم ينجح في دولٍ مختلفة عن لبنان في كلّ شيء إلّا ربّما في النوعيّة الرديئة لسياسيّيها وزعاماتها وحتّى أحزابها وفي قبائليّتها التي تُشبه إلى حدٍّ كبير طائفيّة لبنان ومذهبيّته.
هل حاول لبنان في مراحل ازدهاره الإفادة من رأس ماله الاغترابي لتحصين نفسه ولبناء دولة صغيرة حجماً لكن كبيرة بانتشارها ومحميّة منه؟ هو حاول طبعاً ذلك. ففي المرحلة الواقعة بين انتهاء “ثورة” 1958 وقبل نشوب حروب 1975-1990 فيه أسّست دولة لبنان “الجامعة الثقافيّة اللبنانيّة في العالم”، ولم يكُن هدفها إعادة المُغتربين القدماء وحتّى الحديثي الاغتراب بل إيقاظ لبنانيّتهم وجعلهم قوّة حماية له من الأعاصير الإقليميّة الكثيرة، وقوّة دفع لدولته تجعلها تتقدّم باطّراد لكي تنتقل من دولة نامية إلى دولة مُتقدّمة، ولا سيّما بعدما بدت عليها ملامح التقدّم الثقافي والازدهار الاقتصادي. لكنَّ هذه المحاولة فشلت حتّى قبل اندلاع حروب 1975، ففرطت “الجامعة الثقافية” الأولى، ثمّ انقسمت ولا تزال مُنقسمة، وعجزت ولا تزال عاجزة عن تقديم أيّ مساعدة فعليّة للبنان ولا سيّما في أوقاته الصعبة، إذ بدلاً من أن تنقُل إليه التقدّم السياسي والتقني والعلمي ولا سيّما من العالم الجديد الذي صار أوّل، سمحت هي بانتقال جرثومة الطائفيّة والمذهبيّة إلى نفسها ومن خلالها إلى “المغتربين الجدد” الذين هاجروا أو هُجّروا بدءاً من 1975 ولا يزالون يُهاجرون ويُهجّرون عمليّاً وليس رسميّاً طبعاً حتّى الآن.
ما كان ذلك ليحصل لولا عفن الطبقات السياسيّة الحاكمة والمُعارضة وتقليديّتها وعدم تجدّدها إلّا بالأسماء وتمسُّك كبارها من “خرّيجي” الحرب كما من أغنيائها، باستخدام الاغتراب في المعارك الداخليّة الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة والانتخابيّة. هذا فضلاً عن اعتباره مصدراً لا ينضب لمساعدات ماليّة، إذ صار لكلِّ طائفة ومذهب أو دين مُغتربوه المُتكفّلون بدعمه في كلّ المجالات، علماً بأنّ ذلك كلّه لم يذهب إلى حيث ظنَّ الذين قدّموه، بل إلى الجيوب وإلى المصارف كما ظهر أخيراً.
في اختصار، لا يستطيع البلد المُنقسم والواقف دائماً على شفير الانفراط أن يستفيد من وحدة الاغتراب القديم بإيقاظ شُعلة جذوره في قلبه ودفعه إلى مساعدته على التقدُّم والتحوّل دولة جديّة وعصريّة وقابلة للحياة. ما يستطيعه أو استطاعه هو اقترافه جريمة كبيرة في حقّ الاغتراب المذكور وهي تقسيمه طائفيّاً ومذهبيّاً ودينيّاً بعدما عاش زمناً طويلاً في ظلّ أنظمة فيها من العلمانيّة والمدنيّة والحريّة والديموقراطيّة الشيء الكثير. وإذا كان البلد المُنقسم المذكور أعلاه فشل في تقسيم الاغتراب القديم فإنّه حقَّق نجاحاً مهمّاً جدّاً في تقسيم الاغتراب الأحدث ولا سيّما الذي بدأ عام 1975 ولم يتوقَّف حتّى اليوم. لكنّه في الاغترابين رسّخ اقتناعاً عند المغتربين بأنّ لبنان الدولة الوطنيّة ودولة المواطنة مُستحيلة، وبأنّ أمنه يدفعه مع رغد عيشه ومستقبل أولاده إلى البقاء حيث هو، وإلى استقدام أهله وأقربائه في لبنان وإلى مدّ الباقين منهم في بلادهم بما تيسَّر من الدولارات وإن قلّ عددها بعد أن زادت قيمتها من العملة الوطنيّة جرّاء انهيارها.+
طبعاً لم يدفع ذلك كلّه لبنان الطوائف والمذاهب والأديان والأحزاب والقبائل والإقطاعيّين والزعماء الذين أفرزتهم الميليشيات والحروب والانتماء إلى دول شقيقة وغير شقيقة على حساب انتمائهم إلى لبنان، لم يدفعه إلى التوقّف عن مدّ يده إلى الاغتراب المتنوّع. فهل ينجح في استثارة حميّتهم ووطنيّتهم أو مذهبيّتهم وطائفيّتهم؟