رأي

قيس سعيّد وإعادة بناء الدولة القوية

كتب علي قاسم, في العرب:

رؤية قيس سعيّد للدولة القوية ليست تراجعًا عن الديمقراطية بل محاولة لتصحيح مسارها.

في 22 أغسطس، أثار السيناتور الأميركي جو ويلسون جدلًا واسعًا بعد نشره تغريدة انتقد فيها الوضع السياسي والاقتصادي في تونس، ليس فقط من حيث مضمونها، بل أيضًا من حيث السياق الذي قيلت فيه، والرسائل التي تحملها، والمواقف التي كشفتها.

لكن السؤال الأهم ليس ما قاله ويلسون، بل كيف استُقبلت تصريحاته في الداخل التونسي. الردود كانت غاضبة، من نواب في البرلمان، ومن منظمات وطنية، ومن اتحاد الشغل نفسه، الذي رفض توظيف اسمه في سياق خارجي. هذه الردود تكشف عن حساسية عالية تجاه أيّ تدخل خارجي، حتى لو جاء تحت غطاء الدفاع عن الديمقراطية. فالتونسيون، الذين خاضوا تجربة انتقالية معقدة، باتوا أكثر وعيًا بأن السيادة لا تُقايض، وأن النقد الخارجي لا يُمنح تفويضًا مفتوحًا.

منذ تولي الرئيس قيس سعيّد الحكم في تونس عام 2019، انتهج نهجًا جريئًا لإعادة تعريف مفهوم “الدولة القوية”، وهي رؤية تستحق الدعم لما تحمله من إمكانيات لتصحيح المسار السياسي والاقتصادي الذي عانت منه تونس بعد ثورة 2011. في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، وتشتت سياسي أعاق تقدم البلاد، يمثل تركيز السلطة في يد الرئيس خطوة ضرورية لاستعادة هيبة الدولة، وتعزيز الكفاءة في الحوكمة، وتحقيق إرادة الشعب التونسي.

لا يمكن إنكار أن ثورة 2011 فتحت الباب أمام تجربة ديمقراطية طموحة، لكنها لم ترقَ إلى مستوى التطلعات. فقد عانت تونس منذ ذلك الحين من انقسامات سياسية حادة، وصراعات بين الأحزاب، وتدهور اقتصادي أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 18 في المئة في بعض الفترات، وتضخم أثقل كاهل المواطنين. الناتج المحلي الإجمالي، الذي كان ينمو بمعدل 3.5 في المئة قبل الثورة، تراجع إلى حوالي 1.7 في المئة بين 2011 و2019، ما يعكس فشل النخب السياسية في تقديم حلول فعّالة. في هذا السياق، جاءت إجراءات الرئيس سعيّد في 25 يوليو 2021، بتعليق البرلمان وحل الحكومة، كاستجابة مباشرة لإحباط الشعب من نظام سياسي مشلول لم يحقق سوى الفوضى والتردي.

◙ تركيز السلطة في يد الرئيس هو أداة مؤقتة لتجاوز الفوضى السياسية والاقتصادية التي أعاقت تونس منذ 2011

تتمحور رؤية قيس سعيّد حول استعادة سيادة الدولة وتعزيز الكفاءة في اتخاذ القرارات. إن تركيز السلطة في يد الرئيس، كما نص عليه دستور 2022، ليس تراجعًا عن الديمقراطية، بل هو إعادة هيكلة لنظام الحوكمة لضمان سرعة الاستجابة للأزمات. فقد أثبتت التجربة أن البرلمان، بتعدديته المفرطة، كان منصة للصراعات الحزبية أكثر منه أداة للحلول. إجراءات سعيّد، مثل إصدار المراسيم الرئاسية، مكّنت الدولة من اتخاذ قرارات سريعة في مواجهة الفساد والأزمات الاقتصادية، وهي خطوات تتماشى مع إرادة شعبية عبّرت عن نفسها في دعمه الواسع خلال الانتخابات الرئاسية عام 2019 بنسبة 72.7 في المئة من الأصوات.

دستور 2022، الذي أُقرّ عبر استفتاء، يعكس هذا التوجه نحو دولة قوية تخدم المواطن مباشرة. فمن خلال تعزيز سلطات الرئيس، مثل تعيين رئيس الحكومة وأعضائها، يضمن النظام الجديد تناسقًا في السياسات ويحد من التشتت الذي عانى منه النظام السابق. هذا النهج لا يعني إلغاء الديمقراطية، بل إعادة صياغتها بما يتلاءم مع السياق التونسي، حيث تحتاج البلاد إلى قيادة مركزية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.

من أبرز مبررات دعم رؤية سعيّد هو تركيزه على محاربة الفساد، الذي استشرى في مؤسسات الدولة بعد 2011. إجراءاته ضد بعض رجال الأعمال والسياسيين المتهمين بالفساد، مثل توقيف شخصيات بارزة بتهم تتعلق بالتلاعب المالي، أظهرت التزامًا باستعادة الموارد المنهوبة وإعادة توزيعها لصالح الشعب. هذه الخطوات، رغم انتقادها من البعض بوصفها “انتقائية”، تُظهر عزمًا على فرض سيادة القانون، وهو أساس أيّ دولة قوية.

كما أن سعيّد، من خلال خطابه القريب من هموم الشعب، نجح في استعادة ثقة شريحة واسعة من التونسيين الذين شعروا بالإحباط من النخب السياسية التقليدية. فعبر إصراره على “إرادة الشعب”، يسعى إلى بناء دولة تستمد شرعيتها من المواطنين مباشرة، وليس من مؤسسات أثبتت فشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية.

رغم ذلك، لا يخلو مسار سعيّد من تحديات. فالانتقادات التي تتهمه بتقويض الحريات، مثل ملاحقة بعض الصحافيين والنشطاء، تُشكل نقاط قلق يجب معالجتها لضمان ألا تتحول “الدولة القوية” إلى نظام قمعي. ومع ذلك، يمكن تفسير هذه الإجراءات كجزء من مرحلة انتقالية تهدف إلى تطهير النظام من الفساد وإعادة هيكلة المؤسسات. فالتحدي الأكبر أمام سعيّد الآن هو تحقيق الانتعاش الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة، حيث إن نجاح رؤيته يعتمد على ترجمة الإصلاحات السياسية إلى نتائج ملموسة.

رؤية قيس سعيّد للدولة القوية ليست “دكتاتورية” أو تراجعًا عن الديمقراطية، كما حاول تفسيرها السيناتور الأميركي جو ويلسون، بل هي محاولة لتصحيح مسارها في سياق تونسي معقد. فتركيز السلطة في يد الرئيس أداة قد تكون مؤقتة لتجاوز الفوضى السياسية والاقتصادية التي أعاقت تونس منذ 2011.

بدلًا من الحنين إلى نظام برلماني أثبت هشاشته، يجب دعم هذا النهج كخطوة نحو بناء دولة قوية تستجيب لتطلعات الشعب التونسي. إن نجاح هذه التجربة يتطلب توازنًا بين الحزم في اتخاذ القرارات والحفاظ على الحريات الأساسية، وهو ما يبدو أن سعيّد، بإصراره على خدمة تونس وشعبها، قادر على تحقيقه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى