فورين بوليسي: الملكة إليزابيث الثانية لم تكن بريئة من خطايا إمبراطوريتها ولم تعتذر عن خطاياها

قال المعلق في مجلة “فورين بوليسي” وأستاذ الصحافة بجامعة كولومبيا، هاوارد دبليو فرينتش، إن الملكة إليزابيث الثانية ليست بريئة من خطايا الإمبراطورية التي حكمتها في فترة انحدارها. وقال إن الملكة الراحلة جسدت وساعدت على الترويج لأمتها بدون انتقاد أو اعتذار عن ماضيها.
وعاد الكاتب إلى أواخر خمسينيات القرن الخامس عشر عندما شعرت ملكة إنكليزية اسمها إليزابيث بالقلق من التطورات في أوروبا ومن تخلف بلادها عن اللحاق بركب بناء الإمبراطوريات الجديدة في الخارج. كان البرتغاليون والإسبان قد أسسوا هيمنة مبكرة في هذا المسعى. وقد أظهرت البرتغال الطريق لذلك، من خلال كسب ثروات من التجارة مع غرب أفريقيا مقابل الذهب بداية من أواخر القرن الخامس عشر، وذلك قبل أن تتقن الصيغة الثورية التي ربطت بين الزراعة والعبودية القائمة على العرق، لإنتاج السلع الاستوائية في ساو تومي الصغيرة. النموذج القائم على زراعة السكر وتجارة الأفارقة المستعبدين، سرعان ما سيطر على الحياة الاقتصادية في المحيط الأطلسي لقرون، مما شحذ الاقتصادات الأوروبية ودفع صعود الغرب فوق ما يسمى البقية.
وكان تاريخ بريطانيا الإمبريالي قبل الملكة إليزابيث مقتصرا على هيمنتها على إيرلندا، إلا أن الملكة التي ارتبط حكمها بشكسبير ومسرحياته كانت تريد مسرحا أوسع، ولهذا شجعت النبلاء وكذلك القراصنة مثل جون هوكينز للمغامرة أبعد من القنال الإنكليزي والهجوم على السفن الإسبانية والبرتغالية ومصادرة العبيد والذهب الذي تم استخراجه من غرب أفريقيا.
وبعملها هذا وضعت إليزابيث الأولى الأسس لما صار يعرف بالإمبراطورية البريطانية. وتبع خليفتها جهودها من خلال إنشاء شركة اسمها “شركة المغامرين التجار في لندن”، وعنت المغامرة هنا الهجمات العنيفة للحصول على الذهب والعبيد من شرق أفريقيا. وتم تغيير اسم الشركة لكي يكون مقبولا وبطموح جغرافي، وأصبح “الشركة الملكية للمغامرات التجارية في أفريقيا” ومنحت احتكارا تجاريا على القارة لألف عام. وفي نفس العقد تم وضع أساس آخر للإمبراطورية الإنكليزية من خلال احتلال جزيرة باربادوس في الكاريبي. وفي هذه الجزيرة طبق البريطانيون النموذج التجاري الذي لا يمكن الدفاع عنه ولا ينافس في الوقت نفسه ويتفوق على نموذج البرتغاليين في ساو تومي. وهوالاستعاضة شبه الكاملة عن الخدم البيض برجال ونساء مستعبدين تم إحضارهم في سلاسل من أفريقيا وعملوا عمدا حتى الموت بعقود طويلة الأجل.
ويقول الكاتب إن القصص الأولى عن ممارسات المستعمرين البيض في العالم الجديد والتي تسيدت الدراسة في الجامعات ركزت على فظائع الإسبان ضد السكان الأصليين الإنكا والأزتيك ونهبهم ثرواتهم من الفضة والذهب.
وكما أثبت المثال الإنكليزي، فهناك فرصة للحصول على مال أكثر من الزراعة التي تتم على ظهور العبيد السود. وفي ظل الرعب الكثيف الذي مورس على الشعوب السوداء في الكاريبي، فإن البريطانيين فضلوا التذكير بأن إمبراطوريتهم تركزت في الهند. وقبل ظهور الراج، فقد كانت منطقة الهند الغربية (ويست إنديز) هي التي ولدت الثروة الكبرى. وتوجت هذه بالمزارع التي أقامها الفرنسيون في سانت دومينيك حيث بدأت انتفاضة الأفارقة عام 1791 والتي حررت العبيد وشهدت ولادة ثاني جمهورية في أمريكا متحررة سميت هاييتي. ويرى الكاتب أنه لا يوجد إنكار لهذا التاريخ في أوروبا أكثر من بريطانيا فيما يتعلق بأهمية العبودية التي ساهمت في ظهور القارة الأوروبية كأغنى وأقوى منطقة في العصر الحديث. وهناك مدرسة تاريخية تحاول التقليل من أهمية العبودية وكونها مربحة وأن مزارع السكر كانت محدودة الأهمية في نجاح أوروبا.
يشعر البريطانيون بالفخر لما وصلت إليه حكومتهم من تنوع، ولكن علينا أن لا ننسى أن الإمبراطورية وطوال تاريخها كانت مرادفة للتفوق العرقي الواضح
وهناك سبب جيد للتفكير بخطأ هذا التفكير، فلو لم تكن المنطقة مهمة لما أرسلت الجيوش إليها، فقد أرسل جيش نابليون بونابرت أكبر قوة عسكرية عبر الأطلسي لقمع انتفاضة سانت دومينك حيث هزم جيشه. وحاولت إسبانيا هزيمة الانتفاضة في سانت دومينك لكي تواجه الهزيمة. وحاول البريطانيون نفس الشيء ليخسروا قوات أكبر مما خسروه في الثورة الأمريكية. وحاولت فرنسا مرة ثانية وهزمت وأجبرت على بيع لويزيانا بشكل ساعد توماس جيفرسون على توسيع الدولة الجديدة.
ويقول فرينتش إن العبودية لم تظهر في الاحتفالات المفرحة وبدون نهاية بحياة ملكة حملت اسم إليزابيث. فهذه الملكة اعتلت عرش دولة كانت تشهد نهاية الإمبراطورية وعاشت موجات من تحرر المستعمرات في القرن العشرين. ويرى أنه كباحث قضى حياته يؤلف ويكتب عن تاريخ العبودية وأثرها على الدول المستعمرة والعالم، يعتقد أن التعجل في تجاوز العبودية والتسيد واستخراج البشر والمصادر الطبيعية بدا غريبا.
وهو مثل البقية عاش عصر الملكة إليزابيث الثانية ومن الصعب الحديث عنها بدون وصف رزانتها وثقتها النادرة وأنها كانت قوة في عالم متغير بشكل مستمر. ويؤكد أنه لا يريد الحديث عنها بسوء بعد وفاتها، وإمبراطوريتها وبقية الإمبراطوريات هي شأن آخر. وفي الوقت الحالي، يشعر البريطانيون بالفخر لما وصلت إليه حكومتهم من تنوع، ولكن علينا أن لا ننسى أو نسمح وسط الاحتفال بحياتها الذي تغذيه القوة عبر التلفاز أن الإمبراطورية وطوال تاريخها كانت مترادفة مع التفوق العرقي الواضح. وفي الحقيقة كان هذا هو واحدا من أسسها المركزية. وعلينا ألا ننخدع بالتعليقات السطحية التي تربط هذا بالديمقراطية، وهذا كلام سخيف. فوزير الخزانة الجديد كواسي كوراتينغ، هو ابن مهاجرين من غانا إلى بريطانيا في الستينيات، وفي كتاب له صدر عام 2011 “أشباح الإمبراطورية: إرث بريطانيا في العالم الحديث”، كان مصيبا عندما قال “المفاهيم عن الديمقراطية لم تكن بعيدة عن تفكير الإداريين الإستعماريين أنفسهم، وكانت أيديهم مليئة بالأفكار عن الطبقة والتي حددت من خلال التفوق الفكري والأبوية”. لكنه يخطئ عندما يصف بريطانيا بـ “الديكتاتورية اللطيفة”، لأن هناك حاجة للنظر أعمق للتاريخ، فهذه الإمبراطورية قامت على العبودية ولا ارتباط لها بحقوق الإنسان أو الديمقراطية.
وموقف بريطانيا الخشن لا يقتصر على الأفارقة، فسياستها من تجارة المخدرات لموازنة تجارتها وتوسيع هيمنتها على الصين مثال آخر. وتسببت بريطانيا بالمجاعات عندما استخدمت المحاصيل في الهند وفرضت الضرائب لتمويل حربيها في أفغانستان وجنوب أفريقيا أثناء القرن التاسع عشر، في وقت دمر فيه المستعمرون كل برامج الإغاثة للمواطنين الذين نظروا إليهم باعتبارهم زائد لا أهمية اقتصادية واجتماعية له.
صحيح أن الملكة إليزابيث الثانية وخلافا لإليزابيث الأولى لم يكن لديها سلطة على شؤون البلد، لكنها ظلت وطوال رحلاتها في المجال البريطاني السابق تروج وتجسد النظام الإمبريالي ولم تنتقده أبدا أو تعتذر عما حصل في الماضي
وأشار فرينتش لما ورد في كتاب “لو تم تلخيص تاريخ الحكم البريطاني للهند بجملة واحدة: لم يكن هناك أي زيادة في دخل الفرد في الفترة ما بين 1757 وحتى 1947”. وأشار لكتاب آخر أعدته كارولين إليكن “إرث العنف: تاريخ الإمبراطورية البريطانية” وتحدث عن الوحشية التي ارتكبت في القرن العشرين وأثناء حكم إليزابيث الثانية، بما في ذلك حملات قمع قبيلة الكيكيو في كينيا واحتجاز مليون شخص في أكبر معسكر في تاريخ الإمبراطورية. وترى إليكن أن هذه الممارسات هي نتاج تاريخ وتجريب طويل قامت به بريطانيا من نهاية القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين في الهند وجامايكا وفلسطين وجنوب أفريقيا وعدن والملايا وقبرص، إذ قامت بتطوير أساليبها القائمة على التعذيب والسجن والقتل وتجريم المقاومة بنفس الطريقة التي قام بها البرتغاليون بتطوير نموذجهم في ساو تومي القائم على العبودية والذي طبق في البرازيل وبقية دول أمريكا اللاتينية.
صحيح أن الملكة إليزابيث الثانية وخلافا لإليزابيث الأولى لم يكن لديها سلطة على شؤون البلد، لكنها ظلت وطوال رحلاتها في المجال البريطاني السابق تروج وتجسد النظام الإمبريالي ولم تنتقده أبدا أو تعتذر عما حصل في الماضي. صحيح أن الكثير من المستعمرات السابقة تحولت إلى ديمقراطيات أثناء حكم الملكة الراحلة وباتت تتعامل مع حقوق مواطنيها بجدية، لكن الوقت قد مضى للتظاهر بأن هذه التطورات مرتبطة بالحكم البريطاني اللين أو أن حقوق أبناء الإمبراطورية في لندن لها علاقة بما قامت عليه الإمبراطورية.