رأي

فهم المتغيرات أولى للدبلوماسية الجزائرية في أفريقيا

أفريقيا تغيرت ولم تعد قارة الفقر التي تشحن لها المؤن الغذائية والطبية وهناك قوى ناشئة تنبئ بتغير موازين القوى لذلك فإن تفعيل النشاط الدبلوماسي الجزائري يتطلب أفكاراً وتصورات جديدة.

ترجمت الجولة المكوكية التي قادت وزير الخارجية الجزائري، وكاتبة الدولة للشؤون الأفريقية إلى عدة عواصم أفريقية، حرص القيادة السياسية على تفعيل وتنشيط المحاور المتصلة بالعمق الأفريقي، وهو ما جسدته إضافة الشؤون الأفريقية إلى حقيبة الخارجية، فضلاً عن استحداث كتابة دولة، عُينت فيها سفيرة متمرسة في العمل الدبلوماسي داخل القارة السمراء.

وفيما شدّ أحمد عطاف الرحال إلى العواصم المؤثرة في ملف الساحل الأفريقي، والعمل الأفريقي المشترك، الذي يستعد لوضع ممثلين له في مجلس الأمن الدولي إذا سارت إصلاحاته في المنحى الذي يريده الأفارقة، فإن الدبلوماسية المخضرمة سلمى منصوري قد شدت الرحال إلى بوركينا فاسو، استعادت فيها ذكريات العمل هناك، وأعادت روابط مقطوعة منذ التحاق واغادوغو بحلف دول الساحل.

ومنذ إعلان التعديل الحكومي في الجزائر شهر تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، حيث تمت إضافة الشؤون الأفريقية إلى حقيبة الخارجية، واستحداث كتابة دولة للشؤون الأفريقية، لم يتم أيّ تعليق رسمي لا من طرف المعنيين أنفسهم، ولا من طرف القيادة السياسية لشرح الدواعي والدلالات.

◄ الجزائر تدفع ثمن الفراغ الذي تركته في أفريقيا خلال العشريات الماضية لمّا كان الاهتمام موجهاً إلى وجهات أخرى بينما تركت الوجهة القارية لمنطق أبوية تاريخية ساد الاعتقاد أنها ستظل ثابتة

وحتى لو كانت واضحة وضوح الشمس، فإن أبسط صحافي يمكن أن يطرح التساؤل التالي: إذا تم هذا التعديل في العمل الدبلوماسي القاري، ما الذي سيعدل أو يتغير في العمل نفسه، من مواقف وأفكار أو تصورات لأداء دور فاعل داخل المشهد الأفريقي؟

وقد يقول قائل، إن الجواب على ذلك يكون قد حملته جولة وزير الخارجية وكاتبة الدولة للشؤون الأفريقية، لكن ذلك يحيل المتابع إلى أن ثمة خللاً ما انتبهت له القيادة السياسية في أداء جهازها الدبلوماسي، ولم يتم تقديم حصيلة له للجزائريين، وهو المستفيد من عدم المساءلة بموجب نص تشريعي أصدره الرجل الأول في الدولة.

إلى سنوات قليلة، عين الرئيس عبدالمجيد تبون مجموعة من المستشارين لمختلف الملفات والقضايا، ليكونوا عوناً أو دبلوماسية موازية لعمل وزير الخارجية، وتم تخصيص بعضهم للقارة الأفريقية والمنطقة المغاربية، إلا أن نجم هؤلاء سرعان ما أفل ولم يعد بالإمكان معرفة إذا كانت الآلية قد انتهى العمل بها، أم أن المستشارين المذكورين لا زالوا في مواقعهم؟

وتلك واحدة من تجليات الانتقال داخل الجهاز والعمل الدبلوماسي الجزائري خلال السنوات الأخيرة، فقد أقر الرئيس تبون العديد من الحركات والتغييرات والآليات داخل الجهاز المذكور، إلا أن النتائج التي كانت تصبو إليها السلطة لم تتحقق على ما يبدو، بدليل بقاء نفس الملفات مفتوحة أو مأزومة.

لا يختلف اثنان على أن الجزائر تدفع الآن ثمن الفراغ الذي تركته في أفريقيا خلال العشريات الماضية، لمّا كان الاهتمام موجهاً إلى وجهات أخرى، بينما تركت الوجهة القارية لمنطق أبوية تاريخية ساد الاعتقاد أنها ستظل ثابتة، بينما كانت القوى الطموحة تسابق الزمن وينافس بعضها بعضاً من أجل موطئ قدم داخل القارة السمراء.

أفريقيا تغيرت ولم تعد قارة الفقر والتخلف التي تشحن لها المؤن الغذائية والطبية، وهناك قوى ناشئة تنبئ بتغير موازين القوى داخل القارة السمراء، ولذلك فإن تفعيل النشاط الدبلوماسي الجزائري يتطلب أفكاراً وتصورات جديدة، لا ترتبط بالضرورة بأسماء وألقاب أو آليات، بقدر ما ترتبط بفهم طبيعة المرحلة ومنطق المنافسة، وقراءة وجهات الأفارقة أنفسهم، وعلى رأسها التخلص من استعمارات وتوازنات الأمس، وبناء تحالفات جديدة تقوم على المصالح المشتركة للنهوض باقتصاداتها ومجتمعاتها.

◄ ثمة خلل ما انتبهت له القيادة السياسية في أداء جهازها الدبلوماسي، ولم يتم تقديم حصيلة له للجزائريين، وهو المستفيد من عدم المساءلة بموجب نص تشريعي أصدره الرجل الأول في الدولة

صحيح أن الجزائر لم تخرج من أفريقيا حتى تعود إليها، لكن ملء فراغ العقود الماضية يتطلب إستراتيجية ناجعة وفعالة، تأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على الرصيد التاريخي، والانفتاح على المستقبل وعلى الأجيال الأفريقية الجديدة، التي لم تعد تؤمن بالوصاية الاستغلالية، بل بالشراكات التي تؤمّن لها الكرامة الإنسانية وتحفظ لها مصالحها وطموحها للنهوض باقتصادها وتنميتها.

جيل الحركات التحررية الأفريقية التي استلهمت مسارها من التجربة الجزائرية، لم يعد هو النخب الحاكمة أو المدرسة السياسية التي تصنع القرار الأفريقي، وتلك مرحلة تستوجب التمييز بين الرصيد وبين المستقبل، لأن أفريقيا اليوم هي قوى ناشئة ومجتمعات متحولة، قد تصنف حليف الأمس في خانة عدو اليوم، كما يحدث مع فرنسا التي لم يعد مرغوباً فيها هناك.

والجزائر المؤهلة لأن تكون رائدة في أفريقيا، مطالبة إلى جانب ضبط أوتارها وإرساء عمل دبلوماسي مستقر، بفهم المتغيرات داخل القارة السمراء، وتعبئة إمكانياتها لمد قنوات تواصل وتعاون مع جميع الأفارقة، بمن فيهم أولئك الذين حملوا أحكاماً عدائية، لأن منطق الجوار يتطلب بلورة الحلول للإشكاليات العالقة، أكثر من إثارة المشاكل.

التهديدات الماثلة في الحدود الجنوبية يمكن أن تتحول إلى مناخ للسلام والتعاون، ومنطقة الساحل التي تثير صداع الجزائر الآن يمكن أن تكون جداراً متقدماً لها، متى تحقق الفهم الجيد للمتغيرات والتوظيف السليم للعمل الدبلوماسي والسياسي في المنطقة وفي عموم القارة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى