فنانون حضنوا لبنان المشتعل وإنسانه
دفء كلماتهم وصدق صلواتهم عزاء هذه الشدَّة
حين اعتذر الممثل السوري أيمن زيدان عن عدم تلقّيه وسام التكريم في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسّط تضامناً مع النزف اللبناني، لفح جراحنا بعليل النسيم. اختار الرسالة الصوتية للقول إنه لن يحضر دورته المقبلة. «التحدّيات كبيرة والتوقيت حساس»، أكمل. ثم أكد أنّ الموقف لا يمسّ بهيبة الحدث ومكانته، لكنه مطلوب. مثله، لمح فنانون في المصاب الإنساني هولاً يستدعي لفتة، فتضامنوا. المقيمون في النار يدركون معنى هذا التضامن. فالكلمة تصبح عزاء في الشدائد وحضناً للباكين.
نداء غسان مسعود (فيسبوك)
ولم يكترث الفنان السوري غسان مسعود بما يُباعد بين البشر مثل الانتماءات بأشكالها، فالهمُّ إنساني. توجّه إلى اللبنانيين بإعلان فتح 3 منازل تؤوي التشرُّد. أخبرهم بأنهم مُحتضَنون وليس العراء قدراً. حوَّل داره إلى لفتة مُقدَّرة، وذكَّر بوحدة شعبين في المِحن. «نحن أهل بلد واحد»، قال، ورائحة الـ«أهلاً وسهلاً» تتصاعد من كلماته.
وشاء معتصم النهار ردَّ الفضل بالفضل. فالممثل السوري أعلن فتح الأبواب للبناني المُلقى في اللهب. ذكَّر بأيام دار فيها الدولاب الطاحن، فشكَّل دوسه ندوباً سورية غائرة. حينها، احتضن لبنان ولمَّ. يُحكى كثيراً عما يفرّق بيروت ودمشق، لكنهما في الفواجع رحمة واحدة. إعلانه فتح المنازل واستعادته الماضي المشترك بين البلدين، بجانبه المشرق، يهدّئ نفوساً تحتاج إلى رأفة البشر، ويضمّد شيئاً من الرواسب المسمومة المدعَّمة بوقائع التاريخ الأليمة.
تبنّت شكران مرتجى موقف زميلها ومواقف أخرى تتضامن وتحتضن. فالممثلة السورية المُحمَّلة بجذور فلسطينية، لا تتردَّد في إثبات إنسانيتها. حسابها في «إكس» حقل للأيادي الممدودة. بإعادة عرضها المنشور، يكبُر وتكتمل ألوانه. بين الألوان، كلمات الممثلة المصرية شريهان المُعلِنة حبّها للعاصمة اللبنانية. اختارت صورة مُلتَقطة من نافذة طائرة، تُظهر المدينة من فوق، حيث الأحجام تتضاءل وتبقى المحبة كبيرة. بجانب بحرها وصخرتها الأسطورية، تركت الكلمة الحلوة: «برداً وسلاماً لبيروت».
وهاني شاكر أرجأ حفلاته في أميركا لأنّ المنطقة العربية تشتعل. أطلّ بالفيديو ليعلن الخبر. فالفنان المصري أمضى صيفاً صاخباً في المدن اللبنانية، يُحيي الحفلات ويُطرب المُلوَّعين بالحبّ. ولمّا قست الأحوال، لم تهُن عليه القسوة. تحت علم لبنان على صفحته في «إنستغرام»، سأل الله اللطف بالشعب والأرض، وحصد تعليقات لا تقلّ دفئاً.
بدفء الصوت أيضاً، أهدت شيرين عبد الوهاب لبنان أغنية. قالت إنه في القلب وشدَّت على الأيادي: «مش حبكي يا ناس ولا أبني ضريح/ ولا حاستسلم للأحزان». تعلم أنّ رفض اليأس قدرٌ لبناني، فغنَّت لهذا القدر. في مصر، فنانون من وفاء، يُغلّبون الفكرة الراسخة عن لبنان وإنسانه: بلد فرح وحياة. أرض إرادة وولادة من العدم.
وفيفي عبده تُساند. تساءلت ماذا يُصنَّف هذا «الابتلاء»، ودعت الله حلول النجاة: «ربنا معاكو، إنتو جدعان»؛ شاءت رفع المعنويات. وصفت الشعب اللبناني بـ«الجميل والطيب»، وكرّرت المناجاة: «يا رب تبعد الابتلاء ده عننا». أحياناً، تُرفَع أيدٍ إلى السماء وهي في موضعها. تُرفَع لمجرّد سماعها أحداً يُناجي. تُرفَع بأعصاب القلب.
الأحبة كثر. هم أفئدة ورحمة. في لبنان، غاب بعضٌ ومُستَغربٌ غيابه. لكنّ الحاضرين في حساباتهم ومع الناس في تشرّدهم الأليم، هم العوض. ماغي بو غصن، كارول سماحة، سيرين عبد النور، رابعة الزيات، ورد الخال… وأسماء تشبه الجسور الممدودة. يُعذر الذهن الشارد إن أغفل مَن وَجَب ذكره تقديراً لجهده. وإنما الصورة جلية لمَن يرفض أن تقتصر رؤيته على الزوايا الضيّقة.
لمّا غنّى جوزيف عطية «لبنان رح يرجع والحق ما بموت»، صدحت حناجر المصدّقين بأنّ الأوطان لا تُقتَل. بتلك الأنشودة البديعة، تحوّل الأمل فراشات عصيّة على الانطفاء؛ تتحلّى بقوة التحليق بعد هزيمة شرنقتها. أمام النزف الوطني والإقامة القاسية في العراء، اختار إلغاء حفله في المغرب. إسكات الأنغام فوق الأرض اليباب يُقرأ صلاةً. كما في أغنية «صلّوا لبيروت» بصوته.
ماجدة الرومي صوت لبنان الهادر في عواصفه وسطوع الشمس. أضاءت شمعة وتساءلت، هل العدالة بهدم البيوت فوق الرؤوس؟ ضمَّت حزنها للأحزان الكبيرة، وتركت للدموع أن تلتقي على مصير واحد: «ارحمنا يا رب ودعنا نرَ لبنان الحلم، سيداً حراً مستقلاً، مُصانَة حدوده».
حسين الجسمي ممَّن يحملون لبنان في أغلى ما يملك: قلبه وحنجرته. قلّما يفوته الغناء لفيروز في حفلاته. أمام الهول، اختصر بما يعني كل شيء: «بحبك». وترك للصوت أن يُكمل ما نردّده في عزّ عتماتنا: «كيف ما كنت بحبك، بجنونك بحبك».