رأي

عن بلاد النيجر حيث “الأشياء تتداعى”.

كتب عبد اللطيف السعدون في العربي الجديد.

ربما مثّلت رواية الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبيي “الأشياء تتداعى”، التي نشرها قبل سبعة عقود، نبوءة لواقع حالٍ سوف يشكّل مجتمع النيجر ومجتمعات دول أفريقية أخرى خاضت صراعا بين ماضيها الموغل في الأساطير والرؤى الغيبية، وبين أنماط الحداثة التي جاء بها الغرب، وبخاصة ما تعلق بتجربة بلاده في العقود اللاحقة التي شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية التي بشّرت بالتغيير، وبإطلاق طاقات الشعب وإمكاناته، وتحديث بنية البلاد الاجتماعية والاقتصادية، لكن مآلاتها لم تؤدِّ سوى إلى سيطرة العسكر على السلطة والمال والقرار، كعادتهم في كل بلاد الله، وإلى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، إن لم يكن قد أصابها التردّي والتخلف أكثر مما كان. وقد أوقف الانقلاب الذي استجدّ أخيرا تطوّر آخر تجربة لحكم مدني شهدته النيجر على عهد الرئيس محمد بازوم الذي أسقطه العسكريون، واتهموه بالخيانة العظمى، واحتجزوه.

نالت بلاد النيجر استقلالها في مطلع ستينيات القرن الراحل، إلا أنها لم تخرُج عن دائرة الهيمنة الغربية، إذ تقيم فرنسا وبريطانيا قواعد عسكرية فيها إلى جانب قوات من أقطار غربية أخرى تعمل هناك تحت راية مواجهة الإرهاب، وبقي اقتصادها نهبا للاحتكارات الأجنبية، حيث تمتلك سادس أكبر احتياطي عالمي من اليورانيوم إلى جانب الذهب والنفط والحديد والفوسفات ومعادن أخرى، وهذا كله أوجد نوعا من التسابق والمنافسة عليها من القوى الكبرى، وحتى داخل المعسكر الغربي نفسه، كما فتح شهية روسيا والصين اللتين أدخلتا منطقة الساحل الأفريقي في أجندتهما في وقت متأخّر.

اتخذ تحرّك روسيا شكلا نشيطا، إذ عقدت في بطرسبورغ قمّة مع الزعماء الأفارقة، هي الثانية بعد قمة سوتشي عام 2019، حضرها رؤساء ووزراء من أكثر من 50 دولة أفريقية، كان اللافت فيها اهتمام الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، رغم انشغالاته بحربه (المقدّسة) في أوكرانيا، في إطلاق سلسلة من المبادرات: إنشاء ممرّات لوجستية ومراكز للأغذية والأسمدة، وعروض في مجالات السلاح والطاقة، والوعد بتقديم مساعدات مالية، وإعادة فتح سفارات كانت قد أغلقت.

سعت الصين أيضا إلى تعزيز شراكتها مع دول القارّة، بخاصة في مجالات الغذاء والأمن والتكنولوجيا، وأقامت في بلاد النيجر بالذات مشاريع في حقول الزراعة والتعدين والنفط، وعقدت اتفاقا على المساهمة في استخراج اليورانيوم واستثماره هناك.

الخوف من أن تتداعى الأشياء ليس في بلاد النيجر فحسب، إنما في بلاد الساحل الغربي، وحتى في القارّة الأفريقية كلها

انطلاقا من هذه الخلفية، وجدت الدولتان (الصين وروسيا) في انقلاب النيجر ما يحقق طموحهما في توسيع نفوذهما، لكنهما تحفظتا في إبداء موقفٍ مرحّب في انتظار ما تكشف عنه الأحداث، واكتفتا بالدعوة إلى الحوار وحلّ الخلافات سلميا. وبالتأكيد، لم تغب عن عيونهما مشاهد التظاهرات الداعية إلى خروج الفرنسيين من البلاد والإشادة بروسيا. في المقابل، ليس ثمّة وضوح لمبلغ تعاطف الانقلابيين مع روسيا، أو مع الصين أيضا، لكن ما هو واضح غضبهم من القوات الفرنسية التي قالوا إنها أطلقت سراح إرهابيين متشدّدين بهدف زعزعة الاستقرار في البلاد.

هناك أيضا المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي قالت إنها تعمل على تفعيل القوة العسكرية الاحتياطية التابعة لها للتدخّل. ولكن لا يبدو الأمر سهلا وسط اعتراض بعض دول المجموعة التي تفضّل حلا دبلوماسيا، كما لا يبدو ثمّة خطّة لتدخل جنود القاعدة العسكرية الفرنسية في البلاد، والذين لا يملكون تفويضا من حكومتهم بالتدخّل، وقد يسبّب تدخّلهم، إن حصل، مشكلة جديدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الغارق بالمشكلات إلى أذنيه. والأميركيون هم أيضا ليسوا في وارد اتّخاذ خطوة غير محسوبة، نظرا إلى طبيعة التداعيات التي يمكن أن تنشأ عنها على المستوى الدولي، ويفضّلون الانتظار.

يحدث هذا كله، والخوف من أن تتداعى الأشياء ليس في بلاد النيجر فحسب، إنما في بلاد الساحل الغربي، وحتى في القارّة الأفريقية كلها، والخطورة أن تسقط قطع الدومينو واحدةً بعد الأخرى بفعل فاعل من الخارج، لتغرق القارّة في لعبة الانقلابات من جديد، وثمّة قول معروف لزعيم أفريقي إن انقلابا في أي بلد من بلدان القارّة يلد انقلابا مماثلاً في بلد أفريقي آخر.

وهكذا يعود إلى الذاكرة عنوان رواية تشينوا أتشيبي “الأشياء تتداعى” الذي استوحاه من قصيدة للشاعر الإنكليزي ويليام ييتس: “الصقر يحوقل، يحوقل في الدائرة الواسعة، ولا يصغي لسيده، والأشياء تتداعى، والمركز لا يصمد”. … وسيبقى الحال كذلك في بلاد النيجر، وكذا في بلاد الساحل الأفريقي ربما إلى وقت أطول.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى