رأي

عن الوحدة الصمّاء والحوار الوطني في تونس

كتب سالم لبيض في صحيفة العربي الجديد.

“الوحدة الوطنية الصمّاء” مقولة استخدمها الرئيس التونسي قيّس سعيّد عند إشرافه على مجلس الوزراء المنعقد في 26 من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، والمخصّص للنظر في عدة مشاريع قوانين وأوامر، وفق بلاغ (بيان) رئاسة الجمهورية التونسية على “فيسبوك”. وجاء في كلمة سعيّد الافتتاحية، وقد دامت ثلاث دقائق و48 ثانية: “وأهمّ سدّ في مواجهة كلّ أنواع التحديات في ظلّ هذه الأوضاع المتسارعة وغير المسبوقة التي يشهدها العالم اليوم هو وحدة وطنية صمّاء تتكسّر على جدار هذه الوحدة كلّ المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار”. وفُهم من هذه الديباجة أنها رسالة سياسية استباقية هدفها التصدّي لمخاطر قد تجلبها رياح سورية عاتية.

من الناحية التاريخية، لم تكن مقولة “الوحدة الصمّاء” مستحدثة، ولم يكن قيّس سعيّد مبتكرها، وإنما تنتمي إلى الحقل السياسي البورقيبي، فقد كان الحبيب بورقيبة يستعملها في خطاباته بصفة متواترة في مواجهة معارضيه وإبّان الصراعات السياسية والأزمات الاجتماعية الحادّة في فترة حكمه 1956-1987.

وردت المقولة أوّل مرّة في خطاب الرئيس التونسي الأسبق عند الإشراف على المؤتمر الثامن للاتحاد العام التونسي للشغل في 1 إبريل/ نيسان 1960 في قوله “نحن لم نشرّد كل المعارضين في الصحراء ولم نقض عليهم بالشنق، والسلم الاجتماعي في تونس قائم على اليقين والإيمان والرضى والابتهاج والحماسة، وهذه الوحدة الصمّاء المرتكزة على الرضى والحماسة هي التي امتازت بها تونس ومكّنتها من قطع كلّ هذه المراحل بسرعة” (خُطب الحبيب بورقيبة الجزء العاشر خطاب لا طبقية في تونس).

المتعارف عليه أن الرئيس سعيّد كان يزدري فكرة الحوار الوطني

مرّ أكثر من أسبوعين من دون أن تلوح في الأفق السياسي التونسي ترجمة عملية لفكرة الوحدة الوطنية الصمّاء، التي بشّر بها سعيّد، إلا من أمر رئاسي مؤرّخ في الثامن من يناير/ كانون الثاني الجاري يسمح بانتداب ما يناهز 15 ألفا من الأساتذة والمعلمين النواب (الوقتيين) المباشرين وغير المباشرين في دفعتين، الأولى سنة 2025 والثانية في 2026، وذلك خارج أحكام قانون المالية وموازنة الدولة والتوازنات المالية لسنة 2025.

سوّق سعيّد قراره تصدّيا منه لأشكال التشغيل الهشّ والمؤّقت والمناولة ودفاعا عن “أنبل الوظائف، وظيفة المعلّم الذي تقتضي رسالته التبجيل والتكريم”. لكن القرار لا يخلو من احتواء استباقي، نجح من خلاله الرئيس التونسي في إيقاف سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات والإضراب المفتوح عن التدريس الذي قرّره الأساتذة والمعلمون النواب، وكانت الخشية من تأثير الزلزال السياسي السوري بأن تتحوّل تلك التحرّكات إلى ما يشبه بقعة الزيت التي تنتشر في الاتجاهات كافّة، وتشمل مختلف الشرائح والفئات، ما مكّن تلك الشريحة الاجتماعية من تحقيق مطلب الإدماج الكامل الذي ناضلت من أجل تحقيقه عدّة أجيال من المدرّسين يعود نضالهم إلى سنة 2008.

كما أن في الأمر الرئاسي عودة إلى سياسة شراء السلم الاجتماعي بمقابل مادي (الانتدابات العشوائية والزيادات في الأجور)، وهي سياسة رفضها سعيّد في البداية بتعطيل القانون عدد 38 لسنة 2020 لمن طالت بطالتهم، وكان قد دشّنها أول مرّة الباجي قائد السبسي في أثناء فترة حكمه الأولى سنة 2011، واستمرّ العمل بها آلية لتحقيق الاستقرار والاستمرار في الحكم سنوات طويلة، وكثيرا ما شكّلت وصما وإدانة لمن مارسها، وخاصة حكومتي الترويكا الأولى والثانية 2011-2014 وحكومة يوسف الشاهد 2016-2020.

وقد نُشر أن الرئاسة التونسية شرعت منذ أسابيع في إجراء اتصالات غير معلنة بعدة شخصيات سياسية وممثلين عن أحزاب ومنظمات مدنية وحقوقية، لإجراء حوار وطني في شهر مارس/ آذار المقبل. وأفيد بأن هذا الحوار سيستثني حركة النهضة الإسلامية، بينما سيشمل طيفاً واسعاً من القوى السياسية والمدنية، بهدف “إذابة الجليد” بين سلطة الرئيس قيس سعيّد والمعارضة، ويرمي أيضا إلى “رسم ملامح مرحلة انفتاح سياسي على الأحزاب والائتلافات الداعمة للسلطة والمعارضة لها”.

لما قبل سعيّد بإجراء حوار وطني في يونيو/ حزيران 2022 لوضع دستور جديد، بدلا من دستور 2014، يتم عرضه على الاستفتاء، جعل منه حواراً صورياً لا صفة تقريرية له

ومن غير المعروف ما إذا كانت محتويات هذا الخبر الذي نشره موقع قناة الحرّة، وخاصة الشروع في اتصالات مع شخصيات وأحزاب وقوى مدنية للمشاركة في الحوار السياسي المرتقب، متأتّية من معلومات استخباراتية أو دبلوماسية أو من قنوات سياسية ذات نفوذ ومصداقية. وفي المقابل، لم ترشح أي معلومة من الكواليس ومن دوائر الإعلام التونسي الحكومي وغير الحكومي عن اتصالات للرئاسة التونسية مع شخصياتٍ وطنيةٍ ذات تأثير أو مع المنظمات الوطنية الكبرى، كالاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين والنقابة الوطنية للصحافيين، ونظيراتها في المجتمع المدني، وخاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أو بالأحزاب السياسية الموالية لسلطة الرئيس أو المعارضة لنظام حكمه.

والمتعارف عليه أن الرئيس سعيّد كان يزدري فكرة الحوار الوطني، ويصف ما جرى في سنة 2013 من توافقات بالقول “إن الحوار الذي يوصف بأنه وطني كما كان الشأن في السابق فلا هو حوار ولم يكن وطنيا على الإطلاق”، رغم أن ذلك الحوار وتلك التوافقات كانت وراء حصول رباعي الحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام، لنجاحهم في تشكيل حكومة التكنوقراط بقيادة مهدي جمعة، والاتفاق على محتويات الدستور المصادق عليه في مطلع سنة 2014، والخروج من الأزمة السياسية الحادّة التي كادت تعصف بالبلاد الناتجة عن الاغتيالات، والذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية اعترفت الطبقة السياسية والقوى الدولية بشفافيتها ونزاهتها، وأدّت إلى فوز الباجي قائد السبسي وحزبه، نداء تونس، بالرئاسة والأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة.

وتكرّر موقفه الرافض فكرة الحوار في ديسمبر/ كانون الأول 2020، عندما تقدّم الاتحاد العام التونسي للشغل بمبادرة إلى رئيس الجمهورية بغاية تنظيم حوار وطني لإخراج تونس من أزمة سياسية حادّة آنذاك، من مظاهرها عدم دعوة مجموعة من الوزراء لأداء اليمين الدستورية في قصر الرئاسة في قرطاج رغم نيلهم ثقة البرلمان التونسي. ولما قبل سعيّد بإجراء حوار وطني في يونيو/ حزيران 2022 لوضع دستور جديد، بدلا من دستور 2014، يتم عرضه على الاستفتاء، جعل منه حواراً صورياً لا صفة تقريرية له، ثم رفض مسوّدة الدستور التي أفرزها ذلك الحوار، المعروفة بدستور بلعيد (نسبة إلى العميد السابق وأستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد)، واستبدلها بدستور آخر، بات يعرف بدستور 25 جويلية 2022.

من الصعب أن يقبل سعيّد بحوار وطني ينهي مأساة مساجين السياسة والرأي والتدوين والإعلام، فيقع إطلاق سراحهم، ويوقف التضييق على الحرّيات العامة والفردية

لا يبدو أن فكرة الوحدة الوطنية الصمّاء التي أثارها سعيّد تتطابق مع مفهوم الحوار الوطني الذي تدعو إليه أحزاب وجبهات معارضة، وجديدها تصريح رئيس جبهة الخلاص نجيب الشابي، في 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، بمناسبة الذكرى 14 لاندلاع الثورة التونسية التي أدت إلى انهيار حكم زين العابدين بن علي. قال الشابي “نطلب الحوار، ونريد أناسا يعترفون بالمجتمع التونسي ومختلف أطرافه، ولكن هذا الآن غير موجود، ولا نريد المشاركة في بث أوهام”، مضيفا “نطالب بحوار صحيح لا يُقصي أحداً ونحن مع حوار جامع ينكبّ على حلّ مشاكل البلاد”.

الوحدة الصمّاء كما بشّر بها الرئيس سعيّد هي أقرب إلى معناها التاريخي البورقيبي، أن يصطفّ الجميع من أحزاب ومنظمات وطنية ومجتمع مدني وإعلامي وبقية أفراد الشعب ومختلف فئاته وطبقاته خلف الرئيس في مواجهة أي أزمة سياسية أو اجتماعية محتملة أو قادمة قد تأتي بها الرياح السورية والترتيبات الدولية المتسارعة، ومن مظاهرها الأساسية تحجيم الدورين الإيراني والروسي والاعتراف الغربي والخليجي بحكام سورية الجدد وترتيب البيت اللبناني بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، وانتهاء الحرب في قطاع غزّة.

ومن الصعب أن يقبل سعيّد بحوار وطني ينهي مأساة مساجين السياسة والرأي والتدوين والإعلام، فيقع إطلاق سراحهم، ويوقف التضييق على الحرّيات العامة والفردية، وينهي العمل بالمرسوم عدد 54، ويبحث آليات انفراج سياسي واجتماعي واقتصادي يُخرج البلاد من أزمة خانقة يريد الرئيس سعيّد وبعض أحزاب الموالاة المجهرية، وهي تنظيماتٌ لا تتمتّع بأي تمثيلية، معالجتها بالوحدة الوطنية الصماء من داخل “منظومة 25 جويلية”. بينما تسعى جميع المعارضات السياسية والمدنية إلى حوار وطني جدّي قد ينتهي إلى عودة الأجسام الوسيطة للقيام بوظيفة الضبط الاجتماعي وإنهاء الفراغ السياسي الذي يعيشه الشارع التونسي، وتمكين التونسيين بمختلف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية من حقّهم في ممارسة السياسة والتداول السلمي على السلطة، وتشكيل حكومة جديدة ذات خلفية سياسية، بعد إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، خاصة في ظلّ الفشل النيابي الذريع واقتصار دور غرفتي المؤسّسة التشريعية على المصادقة على القروض وتأبيد التداين المشطّ.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى