عائدٌ من مقديشو
كتب نبيل البكيري في صحيفة العربي الجديد.
أينما يمّمت وجهك في مقديشو ستجد أثراً شاهداً على ما مرّت به المدينة من دمار، كما ستجد أثراً وشاهداً على ما تشهد المدينة من إعادة بناء وتسارع إعمار، جنباً إلى جنب مع تلك الآثار المتبقّية شاهدةً على سنوات الحرب في العاصمة الصومالية مقديشو لحظة انهيار الدولة الصومالية في 27 يناير/ كانون الثاني 1991، ودخول البلاد حرباً أهليةً طاحنةً استمرّت سنوات.
لم تشهد مدينة ما شهدته العاصمة الصومالية مقديشو في عقود ما بعد انهيار الدولة الصومالية، إذ شهدت مواجهاتٍ داميةً بين الفصائل الصومالية المتقاتلة أو بينها وبين القوات الأميركية، التي أرادت أن تسيطر على الوضع في مدينة تحكمها القبائل. فقد تقاتلت القبائل والفصائل الصومالية سنوات، وكان الخاسر الأكبر في هذه المدينة هو الإنسان الصومالي ومدينته الجميلة الساحرة مقديشو، التي وصفها ابن بطّوطة (حينما وصل إليها عام 1331) المدينة الكبيرة بإفراط، والمليئة بالتجّار والأغنياء، والمعروفة بالسلع ذات الجودة العالية التي تُصدَّر إلى دول أخرى، بما فيها مصر.
للمجتمع الصومالي بصماته الواضحة في القطاعات كلّها، وما حقّقه المجتمع سابق لكثير ممّا تقوم به الدولة، والمجتمع الدولي، الذي يستثمر هو الآخر في الأزمة الصومالية
قَدِم كاتب هذه السطور إلى مدينة مقديشو في 13 من الشهر الحالي (ديسمبر/ كانون الأول)، وقضى عشرة أيام على هامش المؤتمر الـ15 للجمعية الدولية للدراسات الصومالية، وحضر المؤتمر الذي يُعقد للمرّة الأولى في مقديشو، وكان قد عُقِد في جيبوتي ولندن ونيويورك وجينجا ونيروبي وغيرها. انعقاد هذا المؤتمر، الذي يتقاطر عليه الباحثون الصوماليون وغيرهم من العالم، إلى مقديش، وكانت له رمزية كبيرة، لاحظناها من خلال الاحتفاء الكبير به من النخب والشعب، ومن الحكومة الصومالية التي وفرت كل أسباب النجاح لهذا المؤتمر، وحرصت على تذليل التحدّيات لإنجاحه، وهو ما تحقّق لهذا المؤتمر الكبير والهام، الذي يمثّل خلاصة أفكار النخب المثقّفة والعلمية الصومالية.
وكانت الزيارة بالنسبة لكاتب هذه السطور بمثابة فتح جديد في مجال اهتمامه بالملفّ الصومالي، فتمكن من الاقتراب أكثر والغوص في المشهد الصومالي، الذي يظلّ كلّ حديث عنه غير دقيق بالضرورة، ما لم تزر مقديشو وتقترب أكثر من داخل هذا المشهد وتعقيداته وتحولاته الكبيرة ومسار التعافي الذي يمرّ به المشهد الصومالي، وكيف يسابق المجتمع ونخبه وقيادته والمتدخلين كلّهم في ترميم ذاته وواقعه بنفسه.
أمّا عن مقديشو، عروس المحيط الهندي، فتجد فيها الصوماليين من الأقاليم كلّها، وتحتل مكانةً كبيرةً في أذهانهم ونفوسهم، باعتبارها عاصمتهم القومية والوطنية، والأم التي يلجأون إليها ولا يمكنهم الاستغناء عنها مطلقاً، فتجد الصومالي الهرجساوي مثله مثل المواطن الجروي والكسماوي والأوغاديني والجلكاعوي والهرشبيلي ومن الأقاليم كلّها، ومن المنافي والشتات أيضاً، حاضرين في مقديشو، ويشهدون بزوغ فجرها.
ففي ثلاثة عقود من انهيار الدولة الصومالية، وعقدَين من مؤتمر السلام الوطني الصومالي للمصالحة في عرته (جيبوتي) 2000، لم يكن ثمّة سوى المجتمع الأهلي الصومالي يقوم بكلّ ما يجب على الدولة القيام به، من التعليم، إلى الصحّة، إلى الخدمات العامّة من الكهرباء والإنترنت والاتصالات. فقد شهدت هذه القطاعات نهضةً حقيقةً بفعل فعّلية المجتمع الأهلي الصومالي، الذي لم ينتظر تعافي الدولة وقيامها بواجباتها، بل مضى في تأسيس مشاريعه وخدماته بذاته، وحقّق نجاحات كبيرة وملموسة في عدد المدارس والجامعات والمستشفيات الأهلية، التي ساهمت في تخطّي المجتمع أزمته، وتلبية متطلّباته الأساسية على الأقلّ.
للمجتمع بصماته الواضحة في القطاعات كلّها، وما حقّقه المجتمع سابق لكثير ممّا تقوم به الدولة، والمجتمع الدولي، الذي يستثمر هو الآخر في الأزمة الصومالية ومنظّماته الكثيرة، التي تعمل هي الأخرى لاستدامة الوضع الصومالي كما هو عليه، وأن يظلّ رهين الهواجس الأمنية الكثيرة التي تجاوزها الشعب والمجتمع، ولم تتمكّن السلطة من تجاوزها بفعل هذه المنظّمات التي تستثمر في المخاوف والتوجّسات المُتوهَّمة. فمقديشو اثنتان، مقديشو المنطقة الخضراء التي تستقبلك بالخواف والتوجّسات، ومقديشو المدينة، حيث الناس والحياة الطبيعية المنسابة بنوع من الفوضى، ولكنها الفوضى الخلّاقة، حيث يتفاعل الإنسان مع مطالبة ومخاوفه واحتياجاته وهواجس مستقبله لينتج تنميةً، لا ينقصها سوى قليل من الإدارة والتنظيم لتكون من أهم مناطق الاستثمار والإعمار في المنطقة كلّها. فمقديشو اليوم ثاني مدينة في العالم في سرعة البناء والإعمار فيها.
المفاجئ في المشهد الصومالي نخبه المثقّفة والعلمية، الذين تعجّ بهم مقديشو وفعّالياتها ومنتدياتها، وحضورهم الكبير في المشهد الثقافي الذي يشهد تزاحمَ أفكار ورؤى وتصوّرات عدّة، وشكى بعضهم من أن معظم هذه النخبة المؤهّلة جيّداً تُستقطَب وتدمج ضمن مؤسّسات السلطات الحاكمة في كلّ دورة، وأن هذا الاستقطاب أثّر بشكل كبير في دور النخبة التوعوي، وتسبّب في بقائها كتلةً معارضةً وصلبةً في وجه أيّ أخطاء أو تجاوزات للسلطات الحاكمة. فما لاحظه كاتب هذه السطور في الواقع الصومالي، أن كثيراً من كوادر الصومال الشابّة والمؤهلة، تُستقطَب وتُدمَج في دوائر السلطة، وتظلّ هناك حتى تأتي سلطة جديدة مع كلّ دورة، فيتم تغييرها، والإتيان بفريق آخر جديد، ممّا يترك فراغاً كبيراً في مؤسّسات السلطة الناشئة، عدا عن أن هذا الإقصاء للكوادر السابقة مع كلّ دورة تغيير رئاسية يسهم في القضاء على تراكم الخبرات في مؤسّسات الدولة، ما يجعلها بمثابة حقل تجارب لكلّ قادم جديد، ما يستديم حالة الفراغ والعبث في المشهدين السياسي والإداري للدولة والسلطة معاً، ويستنزف قدرات وكوادر المجتمع الصومالي المؤهّلة والمدرّبة، عدا عن معضلة المحاصصة القَبَلية، التي أبقت المجتمع الصومالي في حالة شلّل دائم، وعطب للذات، وفقدان للفعالية.
يبقى الجانب الأهم في هذا المشهد، وعجلة التنمية المجتمعية، التي تسابق الزمن وتواجه التحدّيات كلّها، فقصة الإعمار في مقديشو والاستثمار شيء لافت، ورغم التحدّيات والعقبات يبقى ثمّة عجلة تنمية متحرّكة تمضي بشكل كبير، ما ينعكس بشكل أو بآخر في حالة الإعمار والبناء وغلاء العقارات والأراضى بيعاً وإيجاراً، ممّا يعكس حالة الطلب الكبير على هذه القطاعات وحجم الاستثمار فيها.
حالة الصراع بين الثقافات في الصومال على أشدّها، وتشجّع المنظّمات الدولية على تدريس المناهج بالإنكليزية أو بالصومالية
ثقافياً، ثمّة صراع واضح بين الثقافات، فالعربية، لغةً ونخباً، لها حضور واضح وبارز، خاصّة أن العربية لا تزال لغة الدرس الديني في المساجد والحلقات، ولغة الخطبة التي يُفتي جلّ فقهاء المدينة أن لا تتم الخطبة إلّا بها، وأن تلخّص بعد صلاة الجمعة بالصومالية، وهذا ما لاحظه الكاتب في جمعتَين متتاليتَين في جامع المدينة الشهير علي جمعالي، وتواتر له أن هذه الطريقة هي المعمول بها في مقديشو على غير ما هو الحال مثلاً في هرجيسا، حيث العربية هي الأكثر حضوراً هناك. فحالة الصراع بين الثقافات على أشدّها، وتكمن فيما تقوم به المنظّمات الدولية التي تعمل على تشجيع تدريس المناهج الصومالية بالإنكليزية أو بالصومالية، وتمنح المدارس التي تدرّس بهاتين اللغتَين كثيراً من الدعم والتمويل، فيما المدارس التي تدرّس بالعربية تحرم ويضيّق عليها من هذه المنظّمات، التي تعمل في مجال دعم التعليم العام في الصومال.
أمنياً، لا تزال هناك تحدّيات أمنية، خاصّة أن جماعة الشباب لا تزال قائمةً، ولها حضورها في المناطق النائية، التي تقيم فيها شبه دولة مستقلّة، بحسب كلام أحد ماسكي ملفّ هذه الجماعة، التي تشكّل ما يشبه دولة مستقلّة بذاتها وإمكاناتها الكبيرة، وأن ثمّة دعما لها من بعض الأطراف الإقليمية، التي من مصلحتها بقاء الصومال رهين للمخاوف الأمنية، وهو ما يعمل على ضرب حالة الاستقرار في البلاد والمنطقة ككل. ورغم ذلك كلّه، يمضي المجتمع الصومالي نحو التعافي واستعادة دولته ومؤسّساتها بصبر واقتدار كبيرين ولافتين.