اقتصاد ومال

السياسات النقدية السورية بين ضبط السوق وتحديات الصناعيين

تشهد سوريا في الفترة الأخيرة تغيرات لافتة في المشهد النقدي، مع تراجع دور السيولة النقدية (الكاش) ووجود قيود على السحب المصرفي، بالتوازي مع خطوات رسمية لتوسيع نطاق المدفوعات الإلكترونية.

وعلى الرغم أن هذه السياسات تهدف إلى ضبط السوق وتعزيز الاستقرار النقدي، إلا أن انعكاساتها طالت القطاع الصناعي بشكل مباشر، إذ يواجه المنتجون والتجار تحديات في توفير رأس المال العامل لتسيير أعمالهم. فإلى أي مدى أثّر هذا التراجع في السيولة على قدرة الصناعة السورية على التكيف؟ وما السبل الممكنة لتمكين السياسات النقدية من دعم الصناعيين وسط التحديات القائمة؟

تحديات السيولة والتمويل في مواجهة السياسات النقدية

أصدر مصرف سوريا المركزي أخيراً قراراً يسمح بمرونة السحب غير المقيدة من الودائع الجديدة التي تم إيداعها بعد تاريخ 7 مايو.

ورغم أن هذا القرار يهدف إلى استعادة الثقة في الجهاز المصرفي، إلا أن المشكلة تظل قائمة في عدم معالجة الودائع القديمة التي لا تزال تخضع لقيود سحب صارمة، بحسب خبراء أشاروا إلى أن هذا الوضع يُعيق القطاع الصناعي الذي يجد صعوبة في تأمين السيولة اللازمة لعملياته التشغيلية الأساسية، مثل شراء المواد الأولية ودفع أجور العمال، مما يؤدي إلى تباطؤ الإنتاج أو حتى إيقافه مؤقتاً.

وتُعد أزمة الثقة في النظام المصرفي السوري من أبرز التحديات، حيث دفع سلوك البنوك في تقييد سحب الأموال المودعة العديد من الأفراد والشركات إلى تجنب التعامل المصرفي والاعتماد على التعاملات النقدية المباشرة (الكاش). ويوضح تقرير نشره موقع “اندبندنت عربية” أن حاكم المصرف المركزي أكد أن سياسات تقييد الكاش كانت مرتبطة بظروف استثنائية وأن هناك خطة مدروسة لتخفيفها تدريجياً.

لكن غياب الثقة هذا يُبقي الأموال خارج النظام المصرفي، ويعيق تحقيق أهداف السياسات النقدية طويلة الأجل، مما يضع القطاع الصناعي في حالة من عدم اليقين.

نقص السيولة النقدية يضعف مبيعات المصانع
وفي تصريح خاص بموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” قال مستشار أول وزير الاقتصاد والصناعة السوري الدكتور مازن ديروان: “توفر السيولة النقدية من عدمه يؤثر ليس فقط على الصناعة، بل يؤثر على الاقتصاد برمته”.

وأضاف: “ضعف السيولة النقدية يؤدي إلى ضعف بالقوة الشرائية خاصة فيما يخص التعاملات النقدية. هذا بالتالي يؤدي إلى انخفاض مبيعات محلات المفرق وبالتالي انخفاض مبيعات المصانع.”.

ووفقاً للدكتور ديروان، “يعتقد معظم الصناعيين وخاصة أصحاب الورشات الصغيرة أن ضعف مبيعاتهم مرده تحرير الاستيراد ودخول البضائع الصينية وغيرها. في حين أن الواقع يشير إلى أن سبب ضعف مبيعاتهم مرده في معظمه نقص السيولة النقدية وما ينتج عنه من ضعف في القوة الشرائية. أي أن ضعف المبيعات يطال البضائع المحلية والمستوردة على حد سواء”.

وأوضح مستشار وزير الاقتصاد والصناعة أن عدم مرونة سحب الإيداعات له تأثير كبير على رغبة وقدرة الصناعيين على التعامل مع المصارف. وقال: “المصارف وجدت أصلاً لتسهيل التبادل التجاري وتسريعه. في الحالة الراهنة أصبحت المصارف عقبة في وجه التعاملات التجارية ولا تقوم بأكثر من 10 بالمئة؜ من المهام المنوطة بها”.

تراجع الكاش يعود إلى شحّ الأوراق النقدية وقيود السحب
ومن سوريا، قال خبير الاقتصاد الصناعي نضال رشيد بكور في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: تراجع دور (الكاش) النقدي في السوق السورية ليس صدفة محضة، بل نتيجة تداخل بين سياسات نقدية وإجراءات عملية (قيود سحوبات، شحّ أوراق نقدية، خطوات صوب توسيع المدفوعات الإلكترونية) مع عوامل هيكلية قديمة (أعوام الحرب، تضخُّم وانخفاض احتياطيات العملة الأجنبية، وقيود مرتبطة بالعقوبات).

وأشار إلى أن سبب تراجع الكاش هو شحّ الأوراق النقدية وقيود السحب وقال: “فقد شهدت الأسواق شحّاً حاداً في الفئات النقدية المحلية، واضطُرّت المصارف إلى وضع قيود على السحوبات اليومية مما قيّد السيولة المتداولة وعطّل الحركة المالية البسيطة بين المورد والمصنع والموزّع، هذا السلوك البنكي والسياسي أثّر مباشرة على قدرة الشركات على تأمين السيولة للتشغيل”

وعمدت الحكومة السورية من خلال البنك المركزي لاتباع إجراءات نقدية وتوجهات رسمية نحو تنظيم السوق، فالبنك المركزي أعلن خطوات لتوحيد سعر الصرف والانتقال إلى نظامِ تعويمٍ مدار وتقييد دور الصرافين غير المرخّصين، وهي قرارات تهدف إلى ضبط السوق، ولكنّها تَحدث صدمات قصيرة الأجل في السيولة وأسعار المدخلات الصناعية، بحسب تعبيره.

وذكر أن الحكومة بدأت تعمم قبول بطاقات الدفع الإلكتروني في بعض الخدمات الحكومية (مثلاً محطات المحروقات)، ما يخفف حاجة بعض المعاملات إلى الكاش لكن الانتشار لا يزال محدوداً ولا يغطي حاجة الاقتصاد الواقعي بالكامل مما أثر هذا التراجع على الصناعة وتضاؤل رأس المال العامل لدى المصانع الصغيرة والمتوسطة إذ أنها تجد صعوبة في شراء المواد الأولية أو تسديد أجور العاملين بسرعة، ما أدى ويؤدي إلى تباطؤ الإنتاج أو إيقاف خطوط إنتاج مؤقتاً.

زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية فقد الثقة بالعملة المحلية
ويرى خبير الاقتصاد الصناعي بكور أن زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية فقد الثقة بالعملة المحلية ويصعب الحصول عليها، لأسباب عديدة مما حول التجار والمصنّعون إلى التعامل بالدولار أو الليرة التركية أو لآليات دفع بديلة، مما يرفع تكاليف الاستيراد ويعقّد العمل وهناك منافسة مستوردة مفاجئة حيث فتحت الأسواق وتم تخفيف قيود الاستيراد/دون حماية مؤقتة قد يغرق السوق بسلع مستوردة أرخص، ما يضغط على المنتج المحلي المتأثر أصلاً بمشكلة السيولة.

ويخلص بكور إلى أن تراجع الكاش في سوريا ناتجٌ عن قرارات وإجراءات نقدية وقطاعية مرافقة لأزمة هيكلية (حرب، تضخّم، اختلالات في ميزان المدفوعات)، وليس مجرد صدفة عابرة. لمعالجة أثر ذلك على الصناعة يحتاج القرار إلى: استعادة سيولة فعلية (طباعة / تسهيلات سحب مؤقتة) ، برامج ائتمانية مستهدفة للمصانع الصغيرة والمتوسطة، وتدابير حماية مؤقتة للمنتج المحلي مع تسريع نشر بنية المدفوعات الإلكترونية بطريقة شاملة وعادلة.

نفور التجار والصناعيين السوريين من التعامل مع البنوك
في المقابل، يرى الصناعي والباحث الاقتصادي المختص بالشأن السوري عصام تيزيني في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية: “أن نفور التجار والصناعيين السوريين من التعامل مع البنوك أصبح ظاهرة شائعة والسبب هو امتناع البنوك السورية عن تسليم المودعين أموالهم إلا بالقطارة”.

هذا الوضع دفع كل فئات المجتمع الفقيرة منها والغنية للإحجام عن التعامل مع البنوك واتجهت للتداول المباشر (الكاش)، إلى أن أصبحت سوريا واحدة من أكثر الدول التي تعتمد أسلوب الكاش بدل الدفع الإلكتروني (البنكي) في التعاملات التجارية والتداول مما أدى إلى جعل المال ينتشر في الخزائن والجيوب، لأن أصحاب المال لا يؤمنون أن تكون أموالهم حبيسة البنوك التي تقيدهم وتقيد سحوباتهم، بحسب تعبيره.

ويرى تيزيني أن هذه نقطة سلبية تؤخذ على أصحاب السياسة النقدية الجدد الذين لم يقدموا حتى الآن دراسة ولا تبريرا لهذا الذي يحصل مما جعل الصناعي والتاجر يصنع صفقاته ويدفع قيمها بشكل مباشر (كاش) متجنباً البنوك ومبتعدا عنها رغم الأخطار الكبيرة التي تعترض أسلوب الكاش في التعامل.

ورغم أن الباحث الاقتصادي تيزيني يسجل نجاحاً للسياسة النقدية الجديدة في إلغاء القوانين التي تعيق تداول المال وتجرّم حيازة العملات الأجنبية، إلا أنه يشدد على ضرورة إعادة النظر في جانب تعاطي البنوك مع العملاء بحيث تسمح بمرونة الإيداع والسحب والتحويل بدل التقييد المفرط.

واعتبر أن عملية تداول الأموال من دفع وقبض بطريقة (الكاش) أمر له مخاطر كبيره أهمها انعدام الأمان في تخزينها وفي طريق صرفها والأهم تردد كثير من رؤوس الأموال في متابعة أو استئناف أعمالها.

وأكد أن الأمر صار مؤرقاً جدا للتجار والصناعيين وحتى لأصحاب الدخل المحدود من العمال والموظفين خصوصا وأن عملية التعامل بالكاش صارت من منسيات الاقتصادات المستقرة ولا بديل عن البنوك لتجنب هذه المخاطر، متسائلاً.. متى سيقوم حاكم المصرف السوري بتخليص السوريين من هذه المعضلة …؟؟!!

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى