صدام الجمهوريات
كتب رفيق خوري في صحيفة نداء الوطن.
مشكلة الشغور الرئاسي معقدة جداً بمقدار ما هي بسيطة جداً. وليس الجمود الداخلي الذي يفرضه الثبات في المواقع داخل الخنادق، بصرف النظر عن بعض الحراك الفولكلوري على الهوامش، سوى تعبير عن الوقوف أمام الجدار في ما يشبه انتظار غودو. ولا ما تقوم به «الخماسية» العربية والدولية، سواء عبر الوزراء في العواصم أو عبر السفراء في بيروت، سوى ممارسة لديبلوماسية القفز من فوق المشكلة. قفز إلى فراغ آخر. فاللعبة الديمقراطية البرلمانية صارت مجرد ذكرى من عصر مضى. وسياسة التسوية التقليدية التي أنقذت لبنان غير مرة من جنون العنف قبل الإنهيار الكامل، أخذت مكانها سياسة المطلقات والمواقف التي لا يتم التزحزح عنها مهما يكن الثمن.
ذلك أن الخلاف على الرئيس الذي يجب أن يأتي هو في الشكل خلاف على أسماء. وفي الجوهر خلاف على الجمهورية. فنحن في جمهورية أفلست على أيدي المافيا السياسية والمالية والميليشيوية، وبقيت في السوق مع استمرار الإنحلال في مؤسساتها. وهي كانت نوعاً من الإنقاذ وإعادة البناء وتكوين السلطة بعد جمهورية سقطت في حرب لبنان الطويلة بوجوهها المحلية والإقليمية والدولية. وحين نتحدث ونسمع الخارج الشقيق والصديق يتحدث عن تطبيق إتفاق الطائف نصاً وروحاً وتنفيذ القرار الدولي 1701 بكل مندرجاته، فإن الأحاديث تبدو إستعادة لحلم في واقع كابوسي.
وليس أخطر من هذا الواقع سوى التسليم به. ولا أصعب من تغييره سوى الإتفاق على عمق التغيير وصيغته. واللعبة متوقفة، لكن تحريكها محكوم بثلاثة خيارات لثلاث جمهوريات: جمهورية الحرب الدائمة، جمهورية سلام الطائف وجمهورية اللاجمهور واللاشيء. «محور المقاومة» يصر بقوة السلاح والديموغرافيا على جمهورية حرب دائمة في فلسطين وضد «الغرب الجماعي» من أجل المشروع الإقليمي الإيراني. وما يريده، على افتراض أنه يريد بالفعل إنتخاب رئيس وليس تفضيل الشغور الذي يخدم المشروع الإقليمي، هو رئيس لهذه الجمهورية. قوى الإعتراض والسيادة والتغيير تريد جمهورية الإستقرار وبدء النهوض الإقتصادي بعد استعادة جمهورية الطائف المخطوفة، وبالتالي الإصرار على رئيس يلعب دوره الدستوري في هذه الجمهورية. والباحثون في الداخل ومن الخارج عن رئيس تسوية يعرفون أن أي اسم يتم التفاهم عليه سيكون مجرد حارس للأزمة ولن يتمكن من ملء الفراغ الأكبر من الشغور الرئاسي. لا بل إنه مضطر لإلغاء نفسه حرصاً على إرضاء الجميع. وبكلام آخر، فإن الخلاف على دور لبنان صار أعمق من أي وقت مضى. هو الآن، بقوة السلاح، جبهة أمامية ضمن «وحدة الساحات» في استراتيجية أبعد بكثير من مساندة «حماس» في حرب غزة. والفريق الرافض لهذا الدور يعرف أن دور لبنان القديم انتهى، ويبحث عن دور جديد في الإطار العربي من دون أن تتبلور الصورة بالكامل ومن دون دعم جدي ومستمر.
المؤرخ البريطاني أريك هوبسباون يتحدث عن «إختراع التقاليد». لكن مهمة لبنان الصعبة هي استعادة التقاليد الديمقراطية.