سباق تسلّح في أوروبا

كتب مفتاح شعيب, في صحيفة الخليج:
بدت تصريحات الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير في الذكرى السبعين لانضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» لافتة ومثيرة لجملة من التساؤلات، فقد عبر شتاينماير عن استعداد برلين لتعزيز دورها كدعامة أساسية للدفاع الأوروبي، في ضوء تداعيات الحرب في أوكرانيا وإشارات الولايات المتحدة الصريحة بالتخلي عن دورها الأمني المستمر في القارة العجوز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
النبرة التي صاحبت خطاب شتاينماير ليست جديدة في برلين، وبدأت غداة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قبل ثلاث سنوات، عندما أعلن المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتس أن بلاده ستخصص 100 مليار يورو لقواتها المسلحة، كدفعة أولى. وقبل نحو شهر تحدث الائتلاف الحكومي الجديد، الذي سيتولى مهامه في السادس من مايو/ أيار المقبل برئاسة فريدريش ميرتس زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، عن التخطيط لإنشاء صندوق بقيمة تريليون يورو لإعادة بناء الجيش وتحريك الاقتصاد. ولا تقتصر هذه القناعة على برلين وحدها، بل تتردد في كبرى العواصم الأوروبية، وكانت باريس أسبق من نظيراتها عندما حث الرئيس إيمانويل ماكرون منذ 2017 على الاستقلال عن المظلة العسكرية الأمريكية وبناء جيش أوروبي موحد منفصل أيضاً عن حلف «الناتو»، ولكن تلك الدعوة لم تلق الحماسة المطلوبة وخمدت بعد انتهاء ولاية دونالد ترامب الأولى في البيت الأبيض، واختفت نهائياً مع إدارة جو بايدن وقيادة واشنطن التحالف الغربي المناهض لروسيا في أوكرانيا.
الشعور الألماني بالحاجة إلى القوة أصبح حالة أوروبية متنامية تشترك فيها معظم دول القارة بما فيها بريطانيا، التي تواجه جفاء نادراً من الإدارة الأمريكية الحالية. ولا يبدو هذا الأمر مؤقتاً، بل يكاد يكون عنوان حقبة تاريخية جديدة تتغير فيها الحسابات والأولويات بسرعة كبيرة في ظل التنافس الجيوسياسي المحتدم بين الدول العظمى الثلاث، الولايات المتحدة وروسيا والصين. ويخشى الأوروبيون من أن تصبح قارتهم ساحة صراع كبيرة لا شريكة في صياغة ترتيبات النظام الدولي الجديد الذي يتشكل ببطء، وفق قيم ومبادئ مختلفة عن السابق. فلم تعد الديمقراطية والحريات المطلقة وحتى حقوق الإنسان والقيم الليبرالية المألوفة من المعايير الجذابة أو الخادعة، وحلت محلها ثوابت جديدة تقوم على المصلحة الضيقة للدولة القومية والكسب السريع والهيمنة الممزوجة بالغطرسة على حساب حقوق الأطراف الأخرى أو المعايير المشتركة.
أوروبا، التي كانت منذ قرون صانعة السياسة والثقاقة والقيم، لم تعد كذلك الآن في ضوء المتغيرات الدولية. وهذا المعطى سيفرض تحديات جمة على القارة، في وقت يواجه فيه اتحادها صعوبات البقاء، وهناك من بات يعمل على تفكيكه وطي صفحته إلى الأبد. وإذا تحقق هذا الهدف ستعود دول القارة الأوروبية عقوداً إلى ما قبل الاحتماء بالمظلة الأمريكية الحديدية، وستعود إليها النزعات القومية وحتى الفاشية، وسيصبح التنافس بين دولها علنياً ومباشراً، بما يشمل سباقاً جديداً للتسلح قد يدفع إلى إثارة نزاعات قديمة، قد تثيرها الدول الكبرى الأخرى، مثل روسيا المتهمة أصلاً بالعمل على تفكيك الاتحاد الأوروبي واستدعاء ثارات من عهود القياصرة وتشكيل تهديد وجودي للاتحاد، أما العلاقة مع الولايات المتحدة فتشهد تحولات جذرية قد تذهب بها بعيداً عن السياق المألوف، إذا ثبت أن ما ينتهجه ترامب في الوقت الحالي هو سياسة دولة وليس توجه إدارة عابرة.