دبلوماسية بوتين الاستباقية في شرق آسيا
كتب د. محمد السعيد إدريس في صحيفة الخليج.
يوماً بعد يوم، يزداد الترابط بين دوائر الصراع الثلاثي في قمة النظام الدولي التي حددتها حزمة المساعدات الأمريكية الكبرى للخارج التي أصدرها الكونغرس الأمريكي (23/4/2024)، وهي دائرة الصراع في أوروبا ضد روسيا (الحرب الأوكرانية)، ودائرة الصراع في الشرق الأوسط (حرب إنقاذ إسرائيل من السقوط عقب هجوم طوفان الأقصى)، ودائرة الصراع في شرق آسيا (الصراع مع الصين في تايوان ومنطقة الاندوباسيفيك).
لم يكن تخصيص تلك المساعدات عشوائياً لمواجهة روسيا في أوروبا، ولمواجهة إيران وجبهة مقاومة إسرائيل في الشرق الأوسط، ولمواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادي – الهندي. وإذا كانت واشنطن تسعى بكل جهودها لتهدئة الصراع المتصاعد بين حزب الله (اللبناني)، وإسرائيل، في جبهة الشمال للحيلولة دون تفجر حرب إقليمية موسعة تدخل فيها إيران كطرف مباشر يجبر الولايات المتحدة على التورط فيها، فإن التصعيد في الدائرتين الأخريين: الأوروبية وشرق آسيا، تزداد وتيرته، ولكن «على نار هادئة دبلوماسية»، والأهم هو زيادة الترابط بين هاتين الدائرتين.
فالتصعيد الذي أرادته واشنطن ضد روسيا في أوكرانيا، أخذ يعطي الحرب الأوكرانية سمة حرب حلف شمال الأطلسي بقيادته الأمريكية، ضد روسيا، خصوصاً بعد تصعيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ضد روسيا بدعوته لتدخل عسكري أوروبي مباشر في الحرب، وسماح الرئيس جو بايدن لأوكرانيا باستخدام بعض الأسلحة الأمريكية، التي زُودت بها، بضرب العمق الروسي، وإعلان وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون خلال زيارته لكييف (3/5/2024) بأن «أوكرانيا لديها الحق في استخدام الأسلحة التي قدمتها بريطانيا لضرب أهداف داخل روسيا»، هذا ازداد بوتيرة عالية خلال الأسبوعين الماضيين، ضد روسيا، بتوقيع الرئيس الأمريكي بايدن، مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على هامش قمة الدول الصناعية السبع في إيطاليا، أخيراً، اتفاقاً أمنياً يستهدف تعزيز دفاعات أوكرانيا أمام روسيا، من خلال دعم عسكري مباشر ودعم مالي من الفوائد التراكمية للأصول الروسية المجمدة، ووضع إطار عملي لتهيئة أوكرانيا للحصول على عضوية حلف شمال الأطلسي، بما يعنيه ذلك من مسؤولية أطلسية مباشرة في الدفاع عن أوكرانيا، وفقاً للمادة الخامسة من معاهدة هذا الحلف.
وجاء انعقاد القمة الدولية الأولى حول «السلام في أوكرانيا» التي عقدت في منتجع «بورغنستوك» السويسري بعد يومين فقط، من التوقيع على ذلك الاتفاق الأمني الأمريكي – الأوكراني، بحضور أكثر من 90 دولة، ليزيد من زخم التصعيد الأطلسي ضد روسيا في الجبهة الأوكرانية.
وإذا كانت روسيا قد تعمدت أن ترد على هذا التصعيد في هذه الجبهة بتصعيد مماثل، وأكثر قوة، سواء في العمليات العسكرية القوية داخل أوكرانيا، أو من خلال التهديد الروسي المباشر، على لسان الرئيس بوتين، وكبار المسؤولين الروس، بالرد على الدعم الأطلسي لأوكرانيا بدعم روسي لأعداء أمريكا، حيث هم في مناطق متفرقة من العالم لضرب أهداف أمريكية، فإنها تعمدت، ولو دبلوماسياً، في نقل المواجهة مع أمريكا إلى دائرة الصراع «الأهم» في جبهة شرق آسيا.
ففي لقائه برؤساء تحرير وكالات الأنباء العالمية في سان بطرسبرغ (الأربعاء 20/6/2024) قال بوتين، إن «روسيا تفكر في تزويد خصوم دول غربية في أنحاء العالم بأسلحة متقدمة بعيدة المدى ذات طبيعة مماثلة لتلك التي يقدمها الغرب لأوكرانيا».
ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي (الرئيس الروسي السابق)، كان أكثر صراحة في التعبير عما تفكر فيه موسكو عندما قال إن كلمات بوتين «تمثل تغيّراً مهماً للغاية في السياسة الخارجية الروسية». وأضاف «دعوا الولايات المتحدة وحلفاءها يشعرون الآن بالاستخدام المباشر للأسلحة الروسية من أطراف ثالثة»، وأردف أنه «بغض النظر عن معتقداتهم السياسية والاعتراف الدولي بهم.. عدوهم هو الولايات المتحدة.. لذا فهم أصدقاؤنا».
وجاءت زيارة الرئيس بوتين لكوريا الشمالية ضمن جولة آسيوية شملت فيتنام، بعد أيام من زيارته للصين، لتمثل نقلة نوعية لها أهميتها الكبرى لنقل المواجهة الروسية مع الغرب إلى شرق آسيا، وبالذات بعد تلك التصريحات الروسية التي تهدد ببيع أسلحة، من ضمنها الصواريخ الباليستية، وغيرها، وهنا اتجهت الأنظار الغربية نحو خطورة قيام بوتين بمقايضة يعطي لكوريا الشمالية ما تحتاج إليه من معارف تكنولوجية عسكرية في مجالات إنتاج الصواريخ والذرة والفضاء، ويحصل منها على ما يريده من ذخائر وأسلحة تتطلبها الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن التأسيس لتحالفات عسكرية مناوئة للتحالفات الأمريكية تخدم مصالح روسيا، وكل خصوم الولايات المتحدة في المنطقة.
وقد نجح بوتين خلال زيارته لكوريا الشمالية (18- 19/6/2024) في التوقيع مع نظيره الكوري الشمالي «كيم جونغ أون»، على معاهدة «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» التي تؤمّن تواصل وتطوير التعاون الاستراتيجي بين البلدين، ووقّع في فيتنام (19/6/2024) على معاهدة مماثلة للشراكة الاستراتيجية الشاملة، ما يعني أن موسكو باتت ترتبط بثلاث معاهدات للشراكة الاستراتيجية الشاملة في شرق آسيا، مع الصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام، ما يعني أن المواجهة بين موسكو وواشنطن باتت ممتدة من أوروبا إلى شرق آسيا.