خطوة أولى نحو الاستقرار في المنطقة
كتب د. محمود الحنفي في الجزيرة.
في الأول من أبريل/ نيسان قصفت طائرات إسرائيلية مبنى قنصليًا إيرانيًا في دمشق، وفي 14 من الشهر نفسه ردّت إيران على إسرائيل مرسلة مئات الطائرات الانتحارية والصواريخ الباليستية التي قطعت مسافة تزيد على 1700 كلم، وعبَرت أجواء دول عربية قبل أن يصل بعضها لسماء دولة الاحتلال. حبس العالم أنفاسه؛ خوفًا من اندلاع حرب إقليمية. استنفرت القوى الغربية الكبيرة قواتها العسكرية والأمنية. ألغت الكثير من دول العالم رحلات الطيران إلى المنطقة. اتصالات مكوكية فوق الطاولة وتحتها؛ لمنع الانزلاق لحرب لا تبقي ولا تذر.
هل هذه الأحداث وُلدت لتوها؟
بالتأكيد لا. ترتبط الأحداث الأخيرة بشكل مباشر أو غير مباشر بالصراع العربي – الإسرائيلي، وبشكل أدقّ بحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على شعب غزة. إن استهداف القنصلية الإيرانية هو محاولة إسرائيلية لتمييع جوهر الصراع، ورمي قنابل دخانية ولصرف الانتباه عن الحرب على غزة.
وهل بدأت الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ أي بعد العملية الواسعة التي قامت بها المقاومة الفلسطينية على غلاف غزة؟ بالتأكيد لا. ثمة أسباب عميقة أدت وسوف تؤدي إلى حروب في المنطقة، وربما في العالم. هذه الأسباب تُختزل بكلمة واحدة: البحث في جذور الصراع العربي – الإسرائيلي، وأن يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وأن يقرر مصيره بيده، وأن يبني دولته وعاصمتها القدس الشريف، وأن يعود اللاجئون المشردون في منافي الأرض إلى ديارهم وممتلكاتهم، استنادًا لقواعد القانون الدولي الآمرة.
وهل القوة العسكرية المفرطة التي تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود عجاف من الزمن، سوف تحسم الصراع؟ بالتأكيد لا. القوة المفرطة هي فعل، وسوف يتولد عنه رد فعل. ولو أن القوة غير المستندة للحق استطاعت أن تحسم الصراع لحسمته حين كان الفلسطيني لا يحمل غير الحجر.
في الرابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وأمام مجلس الأمن قال أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش؛ إن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم تأتِ من فراغ. غضب الغرب وشنّت إسرائيل هجومًا حادًا عليه، متهمة إياه بأنه يتبنى الرواية الفلسطينية، وبأنه يشجع الإرهاب الفلسطيني.
كان الأمين العام يقصد أمرًا واضحًا لا لبس فيه، هو أن إسرائيل دولة تمارس أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، كما تمنع إعادة اللاجئين الفلسطينيين بما يعمق الصراع ويطيل أمده، وأن هذه العملية جاءت رد فعل على هذه التراكمات الكبيرة.
تبنى الغرب الرواية الإسرائيلية بالقول؛ إن قطاع غزة كان يعيش وضعًا أمنيًا مستقرًا قبل عملية “طوفان الأقصى”، وأن الهجوم الإسرائيلي يأتي كرد فعل منعزلٍ تمامًا عن أي أسباب أخرى إلا سبب الهجوم نفسه. ثم وفّر للاحتلال دعمًا عسكريًا ودبلوماسيًا غير مسبوق، كما حماه من أية مساءلة قانونية ممكنة.
في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول انضمّ حزب الله بشكل جزئي للمعركة وسماها معركة دعم وإسناد. توترت جبهة الجنوب اللبناني بشكل واضح، وباتت ساحة حرب يتبادل فيها الطرفان (إسرائيل وحزب الله) اللكمات العسكرية ضمن قواعد اشتباك لا تزال مضبوطة حتى الآن، لكنها مرشحة للانزلاق في أية لحظة. خسرت إسرائيل أمنها في الشمال، وتضرر اقتصادها بشكل دراماتيكي.
في الواحد والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول، انضمّت جماعة أنصار الله الحوثي إلى الحرب، لكن على الطريقة اليمنية من خلال استهداف سفن إسرائيلية أو تحمل موادّ للإسرائيليين في البحر الأحمر. ثم وسعت نشاطها العسكري، فباتت ترسل طائرات انتحارية وصواريخ باليستية إلى إسرائيل. وأصبحت منطقة البحر الأحمر ساحة حرب حقيقية، ثم انضمت الولايات المتحدة وبريطانيا للحرب وباتتا تقصفان مواقع للحوثيين، ثم وسّع الحوثيون نشاطهم العسكري ليستهدفوا سفنًا عسكرية أميركية وبريطانية.
شنّت إسرائيل حربًا لا أخلاقية ضد سكان قطاع غزة، اصطُلح على تسميتها بحرب الإبادة. قتلت المدنيين ودمرت الأعيان المدنية. وأظهرت قوات الاحتلال (بطولة) منقطعة النظير ضد المستشفيات وأمام قوافل النازحين أو أماكن تجمعهم. قتلت منهم أكثر من 34 ألفًا؛ معظمهم من النساء والأطفال، فضلًا عن التدمير المنهجي للتجمعات السكنية، وفرضت حصارًا خانقًا سمي بحرب التجويع: مات الناس جوعًا، وبعضهم دفن حيًا، أو استُهدف بطائرة مسيرة، وهو يبحث عن الطعام.
يشاهد العالم ما يجري في غزة أولًا بأول. قامت المظاهرات المنددة في كل دول العالم، بما فيها الدول الغربية نفسها؛ غضبًا وسخطًا على نفاق الدول الغربية ودعمها اللامحدود للاحتلال بالسلاح والذخيرة والمواقف. لكن الأخيرة لم تخجل من مواقفها واستمرت في الدعم بغض النظر عن خسائرها السياسية الداخلية.
عجزت مؤسّسات الأمم المتحدة عن اتخاذ إجراءات تمنع حرب الإبادة؛ عجز مجلس الأمن، وعجزت الجمعية العامة، وعجزت محكمة العدل الدولية. هذا العجز عمّق الصراع ووسعه. كما عجزت المحكمة الجنائية الدولية، ولم يقُم مدعيها العام بدورٍ فعّال. قامت بعض الدول بمبادرات شجاعة منعزلة (جنوب أفريقيا، نيكاراغوا) ضد سلوك الاحتلال وداعميه.
لم تستطع هذه المبادرات أن تخرق الجدار الصلب وأن تمنع الجرائم؛ لأنها كانت وحيدة، وكانت تتوقع دعمًا حقيقيًا من دول عربية وإسلامية، ومع ذلك فإن التاريخ قد دوّن هذه المبادرات بحبر من ذهب في سجلّ الشرف.
بعد قيام إسرائيل باستهداف القنصلية الإيرانية ورد إيران على إسرائيل، يعيش العالم اليوم حالة من الترقب والحذر. وتعيش منطقة الشرق الأوسط حالة غليان. ثمة قلق حقيقي تعيشه بعض الدول التي تغافلت عن جوهر الصراع، واعتبرت أنّ رد إسرائيل الوحشي يأتي في إطار معركة سوف تنتهي عما قريب. وفوق ذلك كله تعيش المنطقة المحيطة بالصراع حالة من الركود الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
صحيح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي الأشد تطرفًا، لكن الصحيح أيضًا أن سلوك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم يكن أفضل حالًا، وهي تنفذ سياسة منهجية ترسمها مراكز الدراسات والأبحاث قائمة على قضم الأراضي، وتوسيع الاستيطان، وتهويد القدس، وكبت أو تدمير أية قوة فلسطينية، بغض النظر عن فكرها السياسي. بمعنى أن الحكومات الغربية التي تعتقد أن الإطاحة برئيس الحكومة الإسرائيلية يمكن أن يخمد جذوة الصراع الحالي، هو اعتقاد قصير النظر. وما عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلا حدث، على أهميته القصوى، كشف الوجع البشع للسياسة الإسرائيلية المزمنة.
إن النظر إلى الصراع العربي – الإسرائيلي وكأنه بدأ مع حكومة يمينية متطرفة ثم اشتد مع عملية “طوفان الأقصى” هو تقييم غير منطقي. فكل الأحداث التي حصلت – وسوف تحصل في المنطقة – هي انعكاس مباشر للظلم الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وهي انعكاس للخداع الذي تمارسه الدول الغربية التي قدمت “مبادرات سلام” (أوسلو، حل الدولتين..) قائمة على تعزيز وجود الاحتلال ووأد القضية الفلسطينية وهي حية، وهي انعكاس لسياسة التضليل الإستراتيجي من خلال القول؛ إن القضية الفلسطينية باتت عبئًا على العرب، ولا بد من تجاوزها، وإقامة سياسات تطبيع مع إسرائيل، بما يحقق لكل دولة عربية مصالحها الخاصة.
إن الأمن والاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يتحققا إلا بعد معالجة جذور الصراع. وإن وقف حرب الإبادة على غزة هو الخطوة الأولى في هذا المجال. على جميع الدول المتصلة بالصراع أن تدرك خطورة الأمر، وأن تبذل جهدًا حقيقيًا في هذا الاتجاه.