حوار ليبي… على خطى سابقيه

كتب الحبيب الأسود في صحيفة العرب.
بمقاييس الواقع الليبي الحالي فإن حسابات البيدر لن تكون في مستوى تطلعات السيدة تيتيه التي لن تكون استثناءً في لائحة المبعوثين الخاصين الذين تداولوا على قيادة البعثة منذ العام 2011.
أطلقت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا رسمياً ما تسميه “الحوار المهيكل” الذي تصفه بأنه أحد المسارات الرئيسة الهادفة إلى توسيع المشاركة الوطنية وبناء توافق حول القضايا الكبرى التي تواجه البلاد، والذي يأتي في سياق خارطة الطريق للعملية السياسية التي كان قد تم الإعلان عنها في آب/أغسطس الماضي من قبل رئيسة البعثة هانا تيتيه.
اليوم تجد الأمم المتحدة نفسها أمام اختبار عسير يضع مصداقيتها على المحك، ويطرح جملة من الأسئلة عمّا إذا كان بإمكانها قيادة حوار وطني جدي ومتوازن ونزيه وقادر على إحداث تحول عميق في اتجاه الخروج بليبيا من النفق الذي وقعت فيه منذ 15 عاماً، سيما وأن “الحوار المهيكل” يأتي بعد تجربتين كان كلّ منهما يدفع نحو تعميق الأزمة:
الأولى هي الحوار السياسي للعام 2015 تحت إشراف المبعوث الأممي والدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون، والذي نجح انطلاقاً من اتفاق الصخيرات قبل عشر سنوات في إعادة رسكلة تيار الإسلام السياسي، ومنحه شرعية البقاء في صدارة المشهد من خلال مجلس الدولة المكوّن من أعضاء المؤتمر الوطني العام المنتخب في العام 2012 والمشكّل على أساس أداء وظيفة استشارية سرعان ما قفز عليها ليصبح شريكاً في السلطة التشريعية،
الأمم المتحدة أمام اختبار عسير يضع مصداقيتها على المحك ويطرح جملة من الأسئلة عمّا إذا كان بإمكانها قيادة حوار وطني جدي قادر على إحداث تحول عميق في المشهد الليبي
والثانية هي الحوار السياسي الذي انطلق من تونس في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 تحت إدارة رئيسة بعثة الأمم المتحدة بالنيابة الديبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز التي اعترفت لاحقاً بفشلها في حلحلة الصراع، والتي كانت قد قادت عملية انتخاب سلطات تنفيذية جديدة من داخل جلسات المنتدى بجنيف في شباط/فبراير 2021 حيث حققت لائحة عبد الحميد الدبيبة ومحمد المنفي وعبد الله اللافي وموسى الكوني فوزاً ساحقاً تم التشكيك في نزاهته من أغلب المراقبين واعترف بفساد سياقاته الخبراء الأمميون والفاعلون السياسيون، إذ ورغم أن الاتفاق كان ينص على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في أواخر ذلك العام، وألا تتجاوز مدة عمل السلطات المنتخبة 18 شهراً في أقصى الحالات، إلا أن الوضع اختلف لاحقاً، فقد تم الدوس على بنود الاتفاق، وذهبت الجهود كما ذهبت الوعود الأممية هباءً منثوراً.
أدرك الليبيون أن الأمم المتحدة التي سارعت إلى شرعنة التدخل العسكري في ليبيا في العام 2011 بالاعتماد على تقارير إعلامية تبيّن زيفها، فشلت لاحقاً في تلافي تبعات معركة الإطاحة بنظام القذافي، ووجدت نفسها تراوح مكانها، وتكتفي بأن تكون شاهدة على واحدة من أكبر عمليات النهب في التاريخ تشترك فيها قوى محلية وأخرى إقليمية ودولية متداخلة المصالح تجد في المال الليبي السائب ما يذكي جشعها ويزيد من تمسكها باستمرارية الأوضاع على ما هي عليه.
خلال الحوارات السابقة، تأكد للرأي العام الداخلي والخارجي أن مسارات الاتفاق عادة ما تمر بالتداخلات والضغوط الخارجية وبالرشاوى والصفقات الغامضة والعطاءات والمزادات التي يتم تنظيمها من وراء الستار. في العام 2022 أقرت ستيفاني وليامز في مقابلة مع موقع “ميدل إيست مونيتور” البريطاني بأن “معظم القادة الليبيين يحبون مغازلة الجهات الخارجية، والسفر حول العالم، وتلقي معاملة السجادة الحمراء. ومع ذلك، فإن هؤلاء القادة، نفاقاً، يلقون باللوم علناً على هذه الجهات فيما يعد في النهاية إخفاقات ليبية في الغالب للتوصل إلى الإجماع المطلوب”، واعترفت بأن “الفشل الحقيقي هو فشل ليبي بامتياز ويخص النخبة السياسية”، متهمة هذه النخب بأنها “لا تريد الانتخابات”، وأرجعت ذلك إلى سبب رئيسي واحد هو أنها “ستخسر امتيازاتها”.
لا تستطيع البعثة الأممية الخروج عن خيارات مجلس الأمن الذي يعتمد التوازنات القائمة داخله وفق أجندات للدول الأعضاء عادة ما تكون مصالحها متناقضة ومواقفها متضاربة
وتابعت وليامز أن صانعي القرار في ليبيا مبسوطون لأنهم يتمتعون بالسفر ويصدقون أنهم رجال دولة يُفرش لهم البساط الأحمر، مردفة: “إنه شيء تافه ويبعث على الغثيان والمرارة وحتى القرف. لقد كنت دائماً أعتقد أنهم تافهون ويمكن رشوتهم بتذكرة سفر وليلة في فندق درجة أولى وحتى وجبة معتبرة.. جياع بلا شك!”. تلك الكلمات تمثّل جرحاً عميقاً لليبيا الدولة والمجتمع والكيان الحضاري العظيم، ولكن لا تعني شيئاً بالنسبة لمن يجلسون على الكراسي ويوقعون العقود بعشرات أو مئات الملايين، ولمن يقفون في الصفوف المحيطة ينهشون جزءاً من الغنيمة بأساليب التحيل والسرقة وتغيير اتجاهات المصالح والعقود والتوقيعات.
قبل أيام، قالت البعثة الأممية إن “الحوار المهيكل” يشكّل ركيزة أساسية ضمن خارطة الطريق للعملية السياسية، التي تهدف إلى معالجة الإشكالات المعقّدة ودفع ليبيا نحو الاستقرار والازدهار، وفق ما عرضته الممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا هانا تيتيه أمام مجلس الأمن خلال شهر أغسطس، بحيث يأتي إلى جانب مسارين آخرين في خارطة الطريق، يتمثلان في اعتماد إطار انتخابي فني متماسك وقابل للتنفيذ لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، إضافة إلى توحيد المؤسسات عبر تشكيل حكومة موحدة جديدة.
بمقاييس الواقع الليبي الحالي، ووفق نتائج الحقل الأممي، فإن حسابات البيدر لن تكون في مستوى تطلعات السيدة تيتيه التي لن تكون استثناءً في لائحة المبعوثين الخاصين الذين تداولوا على قيادة البعثة منذ العام 2011 وخاصة أولئك الذين لجأوا خلال السنوات الخمس الماضية إلى الاستقالة خياراً واقعياً لتلافي الحرج وتجاوز الإحساس بالعجز كاللبناني غسان سلامة والسلوفاكي يان كوبيتش والسنغالي عبد الله باتيلي.
لا تستطيع البعثة الأممية الخروج عن خيارات مجلس الأمن الذي يعتمد التوازنات القائمة داخله وفق أجندات للدول الأعضاء عادة ما تكون مصالحها متناقضة ومواقفها متضاربة، ومما زاد من تعميق الأزمة الليبية أن مصالح الدول يحددها ويدافع عنها أشخاص عادة ما ينخرطون بصفاتهم الشخصية في مستنقع الفساد الذي يحيط بمراكز السلطة في ليبيا، ويستفيد منها رجال أعمال وعناصر مافيا ومهربون وتجار سلاح ووسطاء وخبراء ومسؤولون على أكثر من صعيد، وغيرهم ممن يمتلكون الأدوات الكافية لاحتواء أي مشروع للحل السياسي ولإفشال أية مبادرة سواء كانت داخلية أو خارجية، بما في ذلك مبادرة هانا تيتيه التي ستنتهي إلى مجرد توصيات لن تغيّر الواقع، وإنما فقط ستملأ أجندة البعثة وعناصرها بأنشطة تضاف إلى سجل 15 عاماً من التحركات دون جدوى.




