حروب بوتين الأسطورية الدولية.
كتب عبدالرحمن شلقم في صحيفة الشرق الأوسط.
الحروب تبدأ في الرؤوس، ولها فيها بذور تزرعها حمولة التاريخ والآيديولوجيا والطموحات الجماعية والفردية. حرب روسيا في أوكرانيا تقترب من عامها الثاني وفي كل يوم تزداد تعقيداً وتطفو على اهتمام وانشغال وتخوف العالم كله. روسيا تواصل هجومها بكل أنواع الأسلحة، ودول حلف «الناتو» تضخ السلاح والمال إلى أوكرانيا. من الصعب التكهن بـمتى ستنتهي هذه الحرب، وما هي الحلول التي سيقبل بها أطراف الصراع الذي تحوّل حرباً عالمية؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من أمر بشنّ الحرب على دولة أوكرانيا. قيل الكثير عن محركات هذه الحرب وكُتب عنها الكثير. كل حرب لها رأس آمر بها، وفي حالة أوكرانيا، ما هو الدافع الذي حرّك الرئيس الروسي بوتين ليأمر بشنّها؟ بوتين له شخصية الزعيم بكل المعايير، وهو الشخصية التي ينشد إليها ويلتف حولها أغلبية الشعب الروسي. روسيا منذ تشكلها ككيان سياسي لم تعرف سوى حكم الزعيم الواحد الصلب العنيد، منذ عهود القياصرة إلى الزعيم لينين قائد الثورة البلشفية، ومن بعده الزعيم الدموي الرهيب جوزيف ستالين، الذي ما زال له في الذاكرة الروسية مكان فسيح، وعلى الرغم من قتله ونفيه الملايين، فالشعب الروسي يعدّه القائد الصلب الشهم الذي قاد شعبه لصد الهجوم النازي وهزيمته.
روسيا لها ذاكرة لا تغيب عنها الحروب التي شُـنّت عليها من الغرب والشرق. من نابليون بونابارت إلى أدولف هتلر. روسيا بلد واسع غني بجميع أنواع الثروات الزراعية والمعدنية، لكنها تعاني مشكلتين كبيرتين، أولاهما طبيعتها الجغرافية المنبسطة؛ إذ ليس بها جبال شاهقة تحمي أطرافها، والمشكلة الأخرى قلة عدد سكانها. بلاد هي الأكبر مساحة في العالم، أكثر من سبعة عشر مليون كم2، في حين أن عدد سكانها لا يزيد على مائة وأربعين مليون نسمة.
هاجس الخوف من الآخر لا يفارق الروس، وجراح الحرب النابوليونية والنازية لا تندمل أبداً في طبقات الذاكرة الروسية.
فلاديمير بوتين تكوّن في معمل كان تجمعاً لمفارقات غرائبية هي أقرب إلى الأسطورة. ولدت الحياة من رحم الموت والنصر من فوهات الهزيمة، وكُسرت العظمة ولكن لتكون مرة أخرى المطرقة الثقيلة الكاسرة وتفرض قوتها في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في أتون الحرب العالمية الثانية، عندما دكّت القوات النازية الألمانية مدينة ليننغراد – سانت بطرسبرغ – وحاصرتها على مدى تسعمائة يوم، كانت عشرات الجثث مكدسة في شاحنة لنقلها لتدفن في قبر جماعي. قبل أن تتحرك الشاحنة، وصل فجأة جندي ووقف أمام الشاحنة فرأى حذاءً في قدم سيدة ملقاة بين الجثث. إنه الحذاء الذي اشتراه لزوجته. إنها هي زوجته. قرر أن يحملها على كتفيه ليدفنها في قبر خاص بها تكريماً لها. تحركت الجثة وتنفست. بعد العلاج استعادت كامل صحتها. بعد نهاية الحرب أنجبت له طفلاً أسماه «فلاديمير بوتين».
المشهد العجائبي الحربي كان فيه والد فلاديمير أيضاً، مثلما كانت فيه أمه. كان أبوه مقاتلاً في جبهة ليننغراد بصحبة مجموعة من الجنود الروس. هاجمتهم قوة ألمانية وقتلت أغلب جنود المجموعة ولم ينجُ منهم سوى أربعة، انسحبوا واختفوا بغابة. لاحقتهم القوة الألمانية وقتلت ثلاثة منهم، وتمكن واحد منهم فقط من الاختفاء وسط بحيرة صغيرة تحيط بها الأشجار. اقترب الألمان من البحيرة ومعهم كلابهم، لكنه غطس في الماء وتمكّن من النجاة، وهو سبيريدون بوتين والد فلاديمير بوتين. الابن فلاديمير الذي وُلد من رحم المفارقات والعجائب، ينتقل إلى العمل بدولة ألمانيا الشرقية الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي، في مكتب للـ«كي جي بي»، المخابرات السوفياتية. في برلين الشرقية الألمانية، يصبح الفتى الروسي ابن مدينة ليننغراد الذي نجت أمه من حفرة القبر الجماعي بفضل حذاء، يصبح آمراً في أرض الألمان الذين كادوا أن يمنعوا وجوده بقتل أمه وأبيه. ألمانيا الشرقية كانت غرفة عمليات المخابرات السوفياتية، ومخابرات ألمانيا الشرقية – شتازي – كانت إحدى أهم أدوات الـ«كي جي بي» الروسية. كانت تلك الوظيفة في ذلك المكان الذي تدور فيه الحرب الأمنية العالمية الصامتة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي عن قرب.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، غابت أشياء في النفوس وتخلقت أخرى. تنقل فلاديمير بوتين بين وظائف مختلفة، وطالته خصاصة مالية دفعته إلى أن يعمل سائقاً بسيارة أجرة. التحق بوظيفة متوسطة بمكتب رئيس روسيا الجديد يلتسين، واقترب منه إلى أن عيّنه خليفة له.
فلاديمير بوتين يحمل في داخله عصوراً تعجّ بالحياة بما فيها من دماء وانتصارات وانكسارات. دخل رئيساً إلى قصر الكرملين وفي رأسه جيش من الطموح والإصرار. استعادة قوة وعظمة روسيا التي مثّلها يوماً الاتحاد السوفياتي، ومقاومة التسيد الغربي للعالم. أعلن رفضه الهيمنة الأميركية على القرار الدولي، وصرّح بذلك في اجتماع مجلس الأمن بمدينة ميونيخ بألمانيا سنة 2007. تعامل مع خمسة رؤساء أميركيين، لكن المياه لم تجرِ بينهم وبينه. هو لم يخفِ في كل اجتماعاته مع كل الرؤساء الأميركيين معارضته لما يدعون إليه من الديمقراطية إلى المثلية وغيرهما. الرئيس باراك أوباما لم يرد انتهاج سياسة تصعيدية مع بوتين، في حين كان نائبه بايدن يتخذ موقفاً متشدداً من سياساته؛ ولهذا فوّضه أوباما في ملف العلاقة مع روسيا. الرئيس السابق دونالد ترمب بارَك سياسات بوتين، وأعلن تأييده ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وقال إنها روسيّة، أما أوكرانيا فقال إنها ليست دولة، وموقف ترمب المستخف بحلف «الناتو»، أثلج صدر بوتين. قيل الكثير عن مساعدة بوتين لترمب في الانتخابات التي أوصلته للرئاسة.
إلى أين سيمضي الرئيس فلاديمير بوتين في سياسته الحدية التي تهدف إلى تغيير المشهد السياسي الدولي، واستعادة الكيان السوفياتي وبناء قوة عسكرية متقدمة، ويلوّح باستعمال السلاح النووي؟ اليوم يعيش العالم حرباً دولية على أرض أوكرانيا، وحلف «الناتو» يلتف على حدود روسيا بعد انضمام دول البلطيق المتاخمة لروسيا، والصين تهب بعض النظرات الودية لروسيا وتنشط في الوقت ذاته في بناء مشروعها الاقتصادي العالمي العملاق، طريق الحرير وتبني قوتها العسكرية الضاربة وعينها المسلحة على تايوان، وكوريا الشمالية ترفع قدراتها الصاروخية والنووية بشكل سريع. ما زالت المخابرات الأميركية والأوروبية تحلل شخصية بوتين وتقرأ لغة جسده، وتشعل الأضواء أمام جميع تحركاته، فهو زعيم صلب يمتلك طموحات جذورها في رحم العجائب الأسطورية، ويمتلك أسلحة تخيف. أين ستكون حدود حروبه، وأين ستكون آفاق امتداداته التي راكمها التاريخ والطموح في كيانه؟