تطور العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا يغذي طموحات روسيا لتجاوز العقوبات
أعلنت روسيا عن ارتفاع حجم التبادل التجاري مع الدول الأفريقية ليصل إلى 22.8 مليار دولار خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2023، محققة نمواً بنسبة 45 في المئة.
وقال رئيس لجنة الشؤون الدولية في المجلس الفيدرالي غريغوري كاراسين إن بلاده تخطط لزيادة عدد بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا، بما في ذلك فتح سفارات ومكاتب جديدة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية، وتندرج هذه المبادرات في إطار استراتيجية منهجية تهدف إلى مواصلة تطوير التعاون بين روسيا والدول الأفريقية، بالاستفادة من الإمكانات البشرية والموارد المتاحة.
ظل حجم حضور موسكو في القارة السمراء متواضعاً مقارنة بالدول الأخرى، فبعدما بلغ حجم التبادل التجاري ذروته عام 2018 وتجاوز 20 مليار دولار، عجز عن الاستمرار في هذا المستوى وتوقف عند 18 مليار دولار في 2022، على رغم تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2019 بمضاعفة مستوى التجارة الروسية مع أفريقيا خلال خمسة أعوام، قبل أن ينخفض في 2020 و2021 و2022 بنسبة 30 في المئة سنوياً.
وتسعى موسكو إلى التقارب مع بلدان القارة الأفريقية لفك عزلتها الاقتصادية التي أحدثتها العقوبات، فيما وجهت الانتقادات إلى أن ليس لدى موسكو ما تقدمه إلى أفريقيا على الصعيد الاقتصادي، بخاصة في مجال الاستثمارات، لكن بعض الاقتصاديين يرون أن ارتفاع التعاملات التجارية يبدو طبيعياً، بسبب الصادرات الروسية الحيوية المتمثلة في الغذاء والطاقة، وأن أفضل دليل على ذلك مستويات التضخم في غالبية بلدان القارة السمراء، إبان الحرب تحت مفعول العقوبات.
في مواجهة شريك تقليدي شرس
وتعتمد العلاقات الاقتصادية الروسية – الأفريقية في الجزء الأعظم منها على التجارة خلافاً لشركاء أفريقيا التقليديين مثل بلدان الاتحاد الأوروبي المستثمر الأول في القارة، ولا تزيد التعاملات التجارية في المعدل على 14 مليار دولار مع فائض نحو 10.8 مليار دولار لروسيا، بينما تبلغ قيمة التجارة الأفريقية مع الاتحاد الأوروبي 295 مليار دولار والصين 254 مليار دولار والولايات المتحدة 65 مليار دولار وفق تقرير “مركز الدراسات الاستراتيجية لأفريقيا”، علاوة على ذلك، فإن الصادرات الروسية إلى أفريقيا تزيد سبع مرات على الصادرات الأفريقية إلى روسيا، مما يجعلها بعيدة من المحافظ التجارية الأكثر توازناً للشركاء التجاريين الرئيسين للقارة، وتمثل الصادرات الأفريقية إلى روسيا 0.4 في المئة فقط من إجمالي الصادرات، وتتكون في الأساس من المنتجات الزراعية الطازجة.
وتصدر روسيا بصورة رئيسة الحبوب والأسلحة والمواد الاستخراجية المنجمية والطاقة النووية إلى أفريقيا، ومع ذلك، فإن أكثر من 70 في المئة من إجمالي التجارة الروسية تتركز في أربع دول فقط هي مصر والجزائر والمغرب وجنوب أفريقيا.
الأهم من ذلك أن أفريقيا تعتمد على روسيا في توفير 30 في المئة من حاجاتها من الحبوب، وتصل نسبة جميع هذه الصادرات تقريباً إلى 95 في المئة من القمح بمقدار 11.9 مليون طن بقيمة 3.3 مليار دولار، وتتجه 80 في المئة من صادرات القمح هذه إلى شمال أفريقيا، أي الى الجزائر ومصر وليبيا والمغرب وتونس، إضافة إلى نيجيريا وإثيوبيا والسودان وجنوب أفريقيا، وتعتمد أفريقيا حالياً على الواردات لتلبية 63 في المئة من حاجاتها من القمح، مما أحدث صدمة في هذه البلدان بسبب قفزة أسعار المواد الغذائية نتيجة إيقاف روسيا إمداداتها من الغذاء.
وتعد روسيا أكبر بائع أسلحة إلى أفريقيا، إذ تسيطر على نصف السوق، وبينما تباع الأسلحة الروسية إلى 14 دولة أفريقية، فإن الجزائر ومصر وأنغولا تمثل 94 في المئة من قيمة مبيعات الأسلحة في المنطقة.
وتعكس هذه الإحصاءات جزئياً غياب نظام الاستيراد المعفى من الرسوم الجمركية في روسيا والذي يمكن مقارنته بالنظام المعتمد بين أفريقيا والولايات المتحدة أو اتفاقات الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، ما عدا الأسلحة، وتشجع هذه الاتفاقات واردات المنتجات الأفريقية ذات القيمة المضافة.
وعود الاستثمار
ومن المثير للاهتمام أن روسيا تستثمر النزر القليل في أفريقيا، وتمثل استثماراتها حوالى واحد في المئة من إجمالي استثماراتها المباشرة في الخارج، لكن بوتين صرح بأن بلاده لم تنظر إلى أفريقيا قط باعتبارها مستودعاً للمواد الخام، بل إنها أنشأت أيضاً عدداً من الشركات ومصانع الطاقة والصلب هناك، ولكن في واقع الأمر، فإن الاستثمار المباشر في أفريقيا لا يكاد يذكر، والتجارة غير متوازنة إلى حد كبير لمصلحة روسيا.
وتصدر أفريقيا بصورة رئيسة المواد الخام وتستورد الآلات والأسلحة والهيدروكربونات المكررة والأسمدة والمواد الكيماوية، وأعربت روسيا في الوقت نفسه عن اهتمامها بالاستثمار في النفط والغاز في أفريقيا، لكن معظم هذه المشاريع لم تتحقق، وعلى نحو مماثل، تعمل روسيا على تشجيع بناء محطات الطاقة النووية في القارة، فعام 2020 حصلت شركة الطاقة الذرية الروسية الحكومية “روساتوم” على قرض بقيمة 25 مليار دولار لبدء بناء أول محطة للطاقة النووية في مصر، وهي منشأة بقدرة 4800 ميغاوات في الضبعة، وتبلغ الكلفة الإجمالية 60 مليار دولار. ووقعت “روساتوم” اتفاقات تعاون مع 17 حكومة أفريقية أخرى، بما في ذلك إثيوبيا ونيجيريا ورواندا وزامبيا، ونظراً إلى كلفتها، فإن هذه الاتفاقات النووية لا تعتبر قابلة للتطبيق بالنسبة إلى معظم البلدان الأفريقية. واكتشفت شركة “Alrosa” الرائدة في مجال الماس رواسب في زيمبابوي، بينما تقوم شركة “روسال” العملاقة للألمنيوم باستخراج البوكسيت في غينيا، ناهيك عن أنه في جمهورية أفريقيا الوسطى، تدير روسيا اليوم منجم نداسيما الرئيس في البلاد، وفق معهد الدراسات الأمنية في أفريقيا.
وتأتي بلدان شمال أفريقيا على رأس قائمة البلدان التي سعت روسيا إلى تنمية علاقاتها الاقتصادية معها، وكشفت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية عن أن الشركاء التجاريين الرئيسين لموسكو في القارة بين يناير (كانون الثاني) وسبتمبر (أيلول) 2023 هم مصر والجزائر والمغرب وتونس وليبيا، ثم إثيوبيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا والسنغال وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا.
وأعلنت روسيا أن حجم التبادل التجاري مع أفريقيا بلغ 18 مليار دولار في 2022 وأن مجلس الاتحاد الفيدرالي كشف آنذاك عن أن 14.8 مليار منها صادرات روسية، وأشار الى أن أكثر من 50 في المئة من الإمدادات الروسية إلى أفريقيا هي سيارات ومعدات وكيماويات ومواد غذائية، فيما توقفت الهيئة الفيدرالية الروسية للجمارك منذ عام 2022 عن نشر تفاصيل التجارة الخارجية الروسية.
مفعول العقوبات
ورأى المحلل الاقتصادي محمد شحاتي أن التطور في التبادل التجاري بين روسيا وأفريقيا يرجع في الغالب إلى آثار الحرب الروسية – الأوكرانية، بعدما خفضت أوروبا وارداتها من روسيا نتيجة للعقوبات التي أقرتها، لكن هذا لا يقلل من استراتيجية روسيا لتطوير التبادل، في وقت تسعى إلى تأمين أسواق جديدة لمنتجاتها، بينما تسعى الدول الأفريقية إلى جلب الاستثمارات والتكنولوجيا، وتركز موسكو على زيادة صادراتها من السلع والخدمات إلى أفريقيا والاستثمار فيها.
أضاف أن التعاون في مجال الطاقة يبدو حيوياً، إذ تعمل موسكو على توسيع دورها كمصدر للطاقة، بما في ذلك النفط والغاز والطاقة النووية، يليه التعاون العسكري، إذ تواصل تزويد الدول الأفريقية بالأسلحة والتدريب العسكري، مما يعزز علاقاتها الأمنية مع القارة.
وبخصوص التركيز الروسي على شمال أفريقيا أكثر من دول جنوب الصحراء، اعتبر شحاتي أن لروسيا ركائز سياسية واقتصادية تاريخية في دول الشمال، إذ كان لها تعاون عسكري ومدني كبير مع مصر والجزائر، وبناء على هذه القاعدة فإنها تتوسع باتجاه المغرب ونوعاً ما تونس، لتتكامل هذه الشبكة التجارية، أما العراقيل في بلدان جنوب الصحراء فهي الكلفة الكبيرة لإرساء دعائم تبادل تجاري.
وتركز روسيا على نيجيريا بصفتها دولة نفطية ومستوردة للمنتجات النفطية وتحاول بناء علاقة تجارية مع دول جنوب الصحراء، بينما انطلقت في مشاريع بنية تحتية في بعض الدول، بحسب ما قال “أما العوائق فهي العقوبات الأوروبية، إذ تواجه صعوبات في نقل الأموال وإشكالات لوجستية للنقل والتأمين، كما تواجه منافسة من دول أخرى مثل الصين والولايات المتحدة اللتين تسعيان أيضاً إلى توسيع نفوذهما، ومن جهة أخرى يعدّ الفساد عائقاً أمام الاستثمار والتجارة في القارة، إضافة إلى غياب الاستقرار السياسي والأمني وضعف البنية التحتية، وتبقى الرواسب الاستعمارية عائقاً أساسياً تجعل التنافس شرساً مع الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيس لدول شمال أفريقيا، كما تضعف الحرب تنافسية السلع الروسية، مثال الاضطرابات التي تواجه صناعات التكرير في روسيا، مما يجبرها على فرض قيود على الصادرات الروسية من المنتجات النفطية، كما أن شبهات التلوث النووي نتيجة الأعمال الحربية تضع شكوكاً على الواردات من المواد الغذائية الروسية”.