تشارلي كيرك يقسم اليمين الأميركي: العنف السياسي يتشعّب

كتب خضر خروبي, في الأخبار:
الانقسام السياسي الحاد بعد اغتيال كيرك يكشف عن أزمة بنيوية في الولايات المتحدة، حيث يتغذّى العنف من خطاب ترامب اليميني وصعود الجماعات المسلحة.
لطالما مثّل العنف ظاهرة مألوفة على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة، وارتبط، في شقّه السياسي، بمحطّات مفصليّة من تاريخ البلاد، كان آخرها عودة دونالد ترامب، الذي تعرّض نفسه لمحاولتَي اغتيال، إلى السلطة. وتتضافر عوامل عدّة خلف ذلك، من جملتها ارتفاع حدّة الاستقطاب بين الحزبيَن الرئيسَين، وغياب الروح السياسية التوافقية بينهما من جهة، والاحتكام إلى العنف لإقصاء الخصوم، من جهة ثانية، فضلاً عن صراع الصلاحيات بين الحكومة الفدرالية والولايات.
وتصنّف تقارير الأجهزة الأمنية الأميركية ما يمكن أن يصحب هذا الواقع من حوادث عنف مشابهة، كـ»أحد أكثر التهديدات خطورة» على الداخل الأميركي ووحدة البلاد ومصيرها، مع الإشارة إلى تزايد ذلك النوع من الهجمات، خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025، بنحو ضعفَيْ ما كانت عليه خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
اغتيال كيرك: محفّز للاستقطاب السياسي أم نتيجة له؟
كإشارة إلى أن موجة الانقسام التي بدأت تتمدّد إلى أوساط النخب والجمهور المحافظ في الولايات المتحدة، ولا سيما تيار «ماغا»، توقّف مراقبون عند دلالات كلمة مقدّم برنامج «تاكر كارلسون شو»، المعروف بانتقاده اللاذع لحكومة بنيامين نتنياهو، في حفل تأبين تشارلي كيرك في مدينة غلينديل في ولاية أريزونا، أول من أمس، والذي حضره الرئيس الأميركي، ونائبه، ووزير خارجيته.
وعلى غرار زملائه من الإعلاميين المحافظين المحسوبين على تيار «ماغا»، مثل كانديس أوينز، التي ربطت بين واقعة الاغتيال وحملة سياسية قادها رجل الأعمال بيل أكمان بحق الراحل، وميغين كيلي التي صرّحت بأن كيرك أسرّ لها حول تعرّضه لـ»ضغوط» بفعل مواقفه الناقدة لإسرائيل، لمّح كارلسون إلى وجود دور لـ»قوى نافذة» و»مموّلين كبار» مقرّبين من الحكومة الإسرائيلية، في عملية اغتيال مؤسّس منظمة «تورنينغ بوينت».
وفي هذا الجانب، تحدّث عن «قصته المفضّلة» التي قال إنها «حدثت قبل حوالى ألفَي عام في القدس، عندما بدأ يسوع يقول الحقيقة عمَّن هم في السلطة… وقد فقدوا عقولهم وأصبحوا مهووسين بإسكاته». ما جاء على لسان كارلسون، فُسّر على أنه إشارة إلى انتقادات كيرك لطريقة تعامل تل أبيب مع الحرب في غزة، ورفضه الهجوم على إيران.
وأيّاً يكن من أمر، لم يَعُد مستغرباً القول إنّ الشارع الأميركي لم يتجاوز بعد تبعات مقتل كيرك، فيما ثمّة تضارب واضح لدى الحديث عن الدوافع والخلفيات، فضلاً عن التكهّنات الكثيرة حول أدوار جهات خارجية وداخلية أخرى محتمل تورّطها. وعلى رغم تنديد السياسيين الديمقراطيين والجمهوريين بالحادثة، فقد عزّز الخطاب التصعيدي والتحريضي الذي تبنّاه أنصار ترامب ذلك الانقسام، وهو القائم أصلاً على عدد من القضايا الجوهرية، أو «الوجودية» وفقاً لمقاييس كل منهما، كاقتناء السلاح، والهجرة، والإجهاض، والمسائل الدينية والعرقية والجنسانية، بكل ما يخفيه من جدل أوسع حول نظريات «الاستبدال العظيم»، و»تفويض الجبال السبعة» (التي كان كيرك من أشدّ المتحمّسين لها)، وشعور كامن في أوساط اليمين الأميركي بـ»الخطر» من تحوّل أبناء العرقية البيضاء، ممَّن شكّلوا عماد نشأة «القُطر الأنغلوساكسوني» داخل القارة الأميركية، إلى أقلية في غضون عقد من الزمن، في محاكاة شبيهة بالتجربة السوفياتية في مرحلة ما قبل «السقوط».
ينظر البعض إلى اغتيال كيرك كردّ فعل على تمدُّد الخطاب اليميني المتطرّف
بهذا المعنى، ومن منطلق ما تثيره «دوّامة» حوادث العنف، كواقعة الهجوم على مركز احتجاز للمهاجرين في تكساس في تموز الماضي، وما سبقها من حادثة اغتيال النائبة الديمقراطية عن ولاية مينيسوتا، وزوجها، ينظر البعض إلى اغتيال كيرك كردّ فعل على تمدُّد الخطاب اليميني المتطرّف، المؤيَّد بنظريات «التفوّق العرقي»، على حساب خطاب «التنوّع» و»الوحدة»، المألوف عند الديمقراطيين.
وفي إطار ما وُصف بـ»التجريم الانتقائي»، و»المعايير العنصرية المزدوجة»، توقّف محلّلون عند محاباة الرئيس الأميركي لجهة دون أخرى، وتبنّيه العلني لدعاية اليمين الفاشي، على اعتبار أنها تمهّد لاستغلال ما حصل لتقييد الحريات، واستكمال برنامجه «الأوتوقراطي» لقهر خطاب معارضيه، إذ اتّهم «اليسار الراديكالي» بالتسبّب في ما جرى، ولا سيما أنه عاد، يوم الأربعاء الماضي، وأدرج منظمة «آنتيفا»، المعادية للفاشية والرأسمالية، في «لائحة الإرهاب».
إزاء ذلك، يخشى معلّقون غربيون من مخاطر الخطاب المتحيّز في دوائر إدارة ترامب، على نحو غير مسبوق في التاريخ الأميركي. فمن منظور هؤلاء، يكمن الفارق الجوهري بين الرئيس الحالي وأسلافه من الرؤساء، كجورج بوش، وبيل كلينتون، في أن هؤلاء لم يكونوا ليتورّعوا عن إدانة أعمال العنف السياسي، حفاظاً على الوحدة بين المواطنين، خلافاً لترامب الذي أكّد في إحدى مقابلاته أنه «لا يبالي بأمر الوحدة إطلاقاً». كل هذا الجدل من شأنه، وفقاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، أن يعزّز الأزمة السياسية التي تقبع في داخل الولايات المتحدة، بعد مقتل كيرك.
ونقلت الصحيفة الأميركية عن روبرت بيب، أستاذ العلوم السياسية في «جامعة شيكاغو» والمتخصص في استطلاعات الرأي حول العنف السياسي، قوله: «(إنّنا) بلد سريع الاشتعال أصلاً، فيما نشهد سياسات أكثر تطرُّفاً ودعماً للعنف أكثر من أيّ وقت مضى منذ أن بدأنا إجراء هذه الدراسات في السنوات الأربع الماضية». وبرأي المؤرّخ الأميركي، ديفيد بليت، فإنه «عندما تكون الانتخابات أو التشريعات أو الأحداث أو الإجراءات التي تتّخذها الحكومة والقيادات غير مقبولة لدى الأحزاب والجماعات الكبيرة والناخبين، يتعيّن علينا أن نعلم أنّنا معرّضون لخطر الحرب الأهلية».
ولعلّ ممّا يضفي جدّية على المآل الخطير للانقسام السياسي الراهن – وإن كان سمة أساسية مرافقة للتاريخ الأميركي، هو تزامنه خصوصاً مع ارتفاع قياسي في إقبال الأميركيين على شراء الأسلحة النارية، وبروز جماعات يمينية مسلّحة مناصرة لها، على غرار «براود بويز»، و»أوث كيبرز»، إذ شهد عام 2020 وحده شراء 40 مليون قطعة سلاح، مع نِسب إقبال مماثلة في سنوات لاحقة.
حرب أهلية أميركية: واقع أم مبالغة؟
كما جرت العادة مع كل حادثة اغتيال، وما ينجم عنها من سجال في الداخل الأميركي، يُستعاد اليوم الحديث عن سيناريوات إمكانية وقوع حرب أهلية عقب مقتل كيرك، علماً أنّ تقارير تؤكد أن 27% من الأميركيين يعتقدون بإمكانية تحقّق «السيناريو الكابوس» بالنسبة إليهم.
وبين من يؤكد فرضية دخول البلاد مرحلة الاحتراب الأهلي الحقيقي، ومن ينفيها ويدرجها ضمن خانة «المجاز السياسي» أو المبالغة، تتفاوت الرؤى والانطباعات.
فمن جهتها، أشارت مجلة «ناشونال إنترست» إلى أنّ أعمال العنف المتفشّية في الولايات المتحدة، وإنْ بدت معزولة، إلّا أنها لا تعدو كونها دليلاً مكتمل الأركان على بدء الحرب الأهلية الأميركية الثانية، في ظلّ انتشار جماعات مسلّحة محلية تُصنّف ضمن خانة «الإرهاب المحلّي».
وأوضحت المجلة أن عدد ضحايا القتل في الولايات المتحدة، وعلى رغم كونه صغيراً نسبياً عند قياسه مقابل عدد سكان الولايات المتحدة (300 مليون نسمة)، إلا أنّ مقارنته بمقياس أكاديمي واحد للحرب الأهلية، يعطي نتيجة معاكسة؛ مع الأخذ في الاعتبار أن تعريف «الحرب الأهلية الجديدة» في البلاد، لا ينبغي النظر إليه من منظور العمل العسكري التقليدي، بل من خلال تعريف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للتمرّد المفتوح، الذي تشمل دوافعه قضايا السياسة المتعلّقة بالعرق والجنس والهجرة.
على المقلب الآخر، ترفض مجلة «نيويوركر» إسقاط مصطلح «الحرب الأهلية» على الواقعَين الأمني والسياسي داخل الولايات المتحدة، لأن ذلك مصطلح لا بدّ أن يشمل «نطاقاً واسعاً من أعمال العنف»، مترافقة مع عوامل أخرى من قبيل «التغطيات الصحافية المنقسمة، وضعف المؤسسات، ولا سيما تلك المرتبطة بالكونغرس، والقضاء، إضافة إلى تخلي القيادة السياسية عن مسؤولياتها، علاوة على تشريع العنف لحلّ المشكلات (الاجتماعية والسياسية)»، وهي عوامل يتفاوت مستوى حضورها في «أميركا ترامب».




