تسريح نصف مليون موظف في العالم مجرد بداية لموجات كبيرة
جاء في مقال في “بلومبرغ”:
بينما كان نصف العالم تقريباً مغلقاً تحت الحظر الوبائي في أبريل 2020، كانت شركة “فيميو” (Vimeo) لبث مقاطع الفيديو تتلقى طلباً غير مسبوق على خدماتها، وتوجه الاستثمارات إلى دعم العملاء والبنية التحتية التقنية، مع استضافة اجتماعات غداء افتراضية للموظفين الجدد. لكن بعد مرور ثلاث سنوات على هذا التاريخ، بدأت الإيرادات في التراجع، وتهاوت أسهمها بنسبة 93% منذ طرحها للاكتتاب العام، كما خفضت الوظائف. “فيميو” ليست الشركة الوحيدة التي فعلت ذلك.
أُعلن عن خفض أكثر من 500 ألف وظيفة في جميع أنحاء العالم منذ أكتوبر الماضي، حسب البيانات التي تتبعها “بلومبرغ”، وفي صدارة هذه التخفيضات الوظائف المكتبية تأتي الشركات الشبيهة بـ”فيميو”. كما انتشرت موجة تسريحات العمال التي بدأت في شركات التكنولوجيا الكبرى البارزة إلى باقي القطاعات. واتخذت المؤسسات الاستشارية مثل “ماكنزي” (McKinsey) و”كيه بي إم جي” (KPMG) قراراً بتقليص فرق عملهما، فيما تُسرح شركات مثل الإداريين في الطبقة الوسطى من سلم الوظائف وتحارب “البيروقراطية”، كما تضمحل البنوك .
العودة إلى أوضاع ما قبل الجائحة
يمكن القول إن هذا متوقع في ظل عودة الأوضاع الاقتصادية الطبيعية. فبعدما أصبح كل شيء كما كان قبل الجائحة -بدءاً من عدد الساعات التي يقضيها المستخدمون في مشاهدة مقاطع الفيديو عبر الإنترنت، ومروراً بنشاط الاستحواذ على الشركات، حتى تحركات أسعار الفائدة- ليس من المستغرب أن نرى الشركات تتجه بقوة الآن إلى عمليات إعادة الهيكلة. وصرحت أنجالي سود، الرئيسة التنفيذية لشركة “فيميو”، مؤخراً لمجلة “فوربس”: “في أثناء الوباء كان الجميع يشاهدون مقاطع الفيديو على الإنترنت، لكن ما يحدث الآن هو أن هذه الفيديوهات فقدت بريقها، وكانت الرغبة العارمة في المشاركة بها نابعة من إقبال الجمهور على الأشياء الجديدة، خوفاً من تفويت الفرصة أو ما يعرف باسم (متلازمة الشيء الجديد اللامع)”. وأضافت أن الشركة تريد الآن التركيز على عملاء المؤسسات.
لكن على النقيض من ذلك يزداد الطلب على عمال المهارات اليدوية، إذ أدى انخفاض عدد العمال الأكبر سناً في هذه القطاعات إلى تعطش أسواق العمل لمزيد من الأيدي العاملة.
كما يتناقض هذا أيضاً مع التوقعات التي انتشرت في فترة العمل الافتراضي، والتي سمحت لكبار الموظفين باستخدام سماعات الرأس ولوحة المفاتيح في العمل عن بعد، مع استبعاد كبار السن الأقل إلماماً بالتكنولوجيا.
موظفو الأونلاين مهددون بالتسريح
ما نشهده حالياً ليس “ركوداً” في الطلب على موظفي المكاتب، فمعدلات البطالة للموظفين المهرة في الولايات المتحدة لا تزال منخفضة في خانة الأحاد، ولكن يبدو أن العمال الذين تألقوا في العالم الافتراضي (أو من يطلق عليهم اسم الزوومقراطيين) أصبحوا أول المهددين بالتسريح عند خفض الوظائف.
السؤال الآن هو ما إذا كانت هذه ظاهرة مؤقتة أم أنها ستدوم طويلاً، فقد يؤدي الركود الكامل إلى معاناة كل القطاعات على حد سواء. مع ذلك، ونظراً إلى الاتجاهات الحديثة المخيبة للآمال في الإنتاجية، إذ نتجه الآن إلى الأتمتة في عصر الروبوت “تشات جي بي تي“، بات هناك احتمالات كبيرة أن تكون هذه مجرد بداية لموجة تسريحات كبيرة.
أشارت ورقة بحثية نُشرت في نوفمبر الماضي، وشارك في تأليفها نيكولاس بلوم من جامعة ستانفورد، إلى أنه رغم المساعدة الكبيرة التي قدمها التحول الرقمي والعمل عن بُعد خلال وباء كورونا، إذ كانا بلا شك منقذاً ومنفذاً لاستمرار الحياة، فإنّ اتجاهات الإنتاجية عادت إلى سيرتها الأولى عند مستويات ما قبل الوباء، أو أقل قليلاً.
مهارات رقمية محدودة
كما لفتت ورقة نقاشية صادرة عن صندوق النقد الدولي الشهر الماضي إلى أن الرقمنة التي انتشرت خلال الوباء أدت إلى اللحاق على نطاق واسع بتبني التقنيات الأساسية، لكنها لم تُعط دفعة ثورية بصورة أكبر للاستثمارات. وشهدت دولاً مثل البرتغال المتخلفة عن نظيراتها زيادة في التوظيف الرقمي، لكن الدنمارك التي تتمتع بالتقدم التكنولوجي الكبير بالفعل لم تشهد زيادة مطردة في هذا الصدد.
ورغم توقع البعض حدوث قفزة في المؤهلات الوظيفية لتتماشى مع عالم أكثر رقمنة، فإنّ ورقة صندوق النقد الدولي لم تجد دليلاً يشير إلى زيادة الطلب على المهارات الرقمية في الوظائف. وتتفق نتائج هذه الورقة البحثية مع الأبحاث التي أُجريت العام الماضي ووجدت مؤشرات على “تراجع المهارات” بدلاً من زيادتها، إذ قلص أرباب العمل متطلبات الوظائف لحل مشكلة نقص العمالة المتاحة.
كما أن “متلازمة الشيء الجديد اللامع” التي أشارت إليها سود من شركة “فيميو” تفسر جزءاً كبيراً أيضاً من أسباب هذه الأزمة، إذ أتاح الاندفاع الرقمي خلال تفشي “كوفيد-19” طوفاناً من الفرص التجارية قصيرة الأجل التي بدت جيدة جداً حينها بحيث لا يمكن رفضها، ولكنها انحسرت في عالم ما بعد الوباء. وبالتالي فإن الاستشاريين الذين يلقون محاضرات على الرؤساء التنفيذيين حول الإنتاجية قد يضطرون أيضاً إلى خفض الوظائف، وأول من سيجري تسريحهم هم العاملون عن بُعد الذين حلموا بإنشاء مكاتبهم على الشاطئ.
الاستفادة من “تشات جي بي تي”
على عكس ازدهار الإنتاجية الذي شهدناه في التسعينيات –التي تميزت بانتشار أجهزة النداء الآلي والرسائل النصية ومودم الاتصال بالإنترنت- كان لعصر العمل من خلال “زووم” حتى الآن تأثير تدريجي إلى حد بعيد. ويقول جورج موران، الاقتصادي في “نومورا إنترناشيونال بي إل سي”: “لا نرى حقاً أي مكاسب إنتاجية كبيرة”.
مع ذلك، فما زرعه برنامج “زووم” يمكن أن يحصده “تشات جي بي تي”، الذي يُتوقع أن يتيح مزيداً من الوظائف عبر الإنترنت، دون أن يقابلها قفزة في المهارات أو الاستثمار في الابتكارات الإنتاجية، وهناك خطر يتمثل في أن عمل موظفي المكاتب أصبح الآن أكثر عرضة للتهديد مما كان عليه من قبل. فمن دون التأقلم مع الرؤى الإدارية للذكاء الاصطناعي فإن العالم الذي يمكن فيه أتمتة مزيد من الوظائف المعرفية سيمثل تهديداً لموظفي الشركات (سواء كانوا يعملون عن بُعد أو لا).
لكن العكس صحيح بالنسبة إلى أصحاب المهارات والأعمال اليدوية، فإذا طلبت من “تشات جي بي تي” المشورة لإصلاح أنبوب الماء المنفجر فسيقدمها لك، لكن الرد سيتضمن: “من الأفضل الاتصال بسباك مرخص يمكنه مساعدتك في الإصلاح”.
ختاماً، لا عجب أن الرؤساء التنفيذيين متحمسون للذكاء الاصطناعي، إذ أخبرت الرئيسة التنفيذية لشركة “فيميو” مؤخراً المحللين بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه تلقائياً القيام بمهام معرفية وإبداعية مثل إنشاء مقاطع فيديو للعملاء، وأضافت أن الذكاء الاصطناعي التوليدي هو مجال تتطلع الشركة إلى استخدامه، فيما صرح كبير الاقتصاديين في شركة “زيب ريكروتر” (ZipRecruiter) مؤخراً لصحيفة “وول ستريت جورنال” بأن “كل شهر تظهر مئات الوظائف الشاغرة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي”. وسواء كانت هذه التكنولوجيا تستحق كل الضجة المثارة حولها أو لا، فإنها تبدو كأنها “شيء جديد لامع آخر”، ومن شأنها أن تجعل موظفي المكاتب يشعرون بالتهديد.