تردد مصري في الإصلاحات السياسية
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
مساحة الانفتاح من العناوين التي تحسب للنظام الحاكم وهي مؤشر على الثقة وعلامة على متانة الحياة السياسية وامتلاك القيادة الحاكمة أدوات تمكنها من البقاء في السلطة بالرضاء والمنافسة الحرة مع المعارضة.
قطعت مصر شوطا كبيرا من الإصلاحات الاقتصادية وتصمم قيادتها على المضي قدما في هذا الطريق وتجاوز صعوباته المتعددة وتحمل تكاليفه الباهظة، بينما تتردد في إدخال إصلاحات سياسية كبيرة، وتعتقد السلطة أن الدولة غير مستعدة لها جيدا، وأن أولويات المواطنين بعيدة عنها.
هذه واحدة من القناعات التي أدت إلى تعثر الانفتاح في الفضاء العام، وكلما جرى الحديث عنه وظهر تجاوب مع نداءات خرجت من الحوار الوطني وتقدم خطوة إلى الأمام تبعته الحكومة بأخرى إلى الخلف، ما جعل مسألة الإصلاحات السياسية ثابتة في مكانها.
كشف التعثر عن حسابات مختلفة بين فريقين داخل السلطة، أحدهما يرى أن إدخال إصلاحات سياسية كبيرة يؤدي إلى ما يشبه الفوضى في الشارع بعد أن تمكنت الدولة من ضبط إيقاعه والتخلص من الجيوب التي خلقتها جماعة الإخوان عقب رحيلها عن الحكم بثورة شعبية عارمة، إذ يفضي الانفتاح وممارسة الأحزاب حريتها السياسية بلا ضوابط صارمة إلى إرهاق الأجهزة الأمنية لتمنع وصول الأمر إلى الانفلات.
بينما الرؤية المقابلة، ترى أن الانفتاح أداة لامتصاص الكبت الناجم عن احتدام الأزمات الاقتصادية، حيث تعمل جماعة الإخوان والقريبون من خطابها على استثمار الأزمات لتحريض المواطنين على النظام المصري، وباتت مواقع التواصل الاجتماعي منتشرة بما أفقد التضييق على الحريات جزءا من مفعوله، وأن الإصلاحات ضرورية لإقناعهم بحرص الدولة على استيعاب طاقاتهم بالطرق القانونية، والتي تعبر في محصلتها عن قوة النظام وقدرته على التعامل مع التحديات الداخلية.
أكدت نتائج الجولة الأولى من الحوار الوطني الذي ضم قوى وأحزابا وشخصيات محسوبة على النظام والمعارضة وجود مساحة من المرونة لدى الطرفين، وإمكانية للتفاهم حول قواسم مشتركة بينهما، فالمعادلة لم تعد تسير في طريق الشد فقط، وتيقن معارضون أن لدى السلطة سماحة سياسية يمكن البناء عليها، وترددها الظاهر له دوافعه المنبثقة من خيبات ما بعد ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، وجاءت من مخاوف عملية أحدثها فشل الأحزاب المصرية في تفريخ قيادات سياسية عديدة.
قد يكون الفشل مسؤولية بين السلطة والأحزاب، فالأولى لم تهيئ الأجواء المناسبة أمام المعارضة للتعبير عن رؤاها بحرية في الإعلام وعقد اجتماعات وندوات ونقاشات حول القضايا الحيوية، والثانية أخفقت في تقديم كوادر تستطيع أن تقنع السلطة أو تفرض منحها مساحة تمكنها من التواصل مع المواطنين، ولذلك يضع كل فريق الكرة في ملعب الآخر للتنصل من المسؤولية السياسية والإيحاء بأن الخطأ يتحمل وزره الآخر، ما يؤدي إلى الشعور بأريحية وعدم بذل جهد لتغيير المعادلة.
من المؤكد أن كل طرف يتحمل جزءا من المسؤولية التي جعلت من الإصلاحات معضلة، فمصر بتاريخها الكبير والممتد في الحياة السياسية درجت على وجود حد أدنى لدى السلطة لاستيعاب المعارضة، والثانية امتلكت من الحضور ما دفع أنظمة سابقة لعدم تجاهلها، وربما الاستثمار فيها، لأن مساحة الانفتاح من العناوين التي تحسب للنظام الحاكم، وهي مؤشر على القوة والثقة والأمن والاستقرار، وعلامة على متانة الحياة السياسية، وامتلاك القيادة الحاكمة أدوات تمكنها من البقاء في السلطة بالرضاء الكبير من الشعب والمنافسة الحرة مع المعارضة.
تبعث هذه الإشارات برسالة تعزز الحرص على الإصلاحات الاقتصادية التي تسعى لجذب مستثمرين أجانب، ويعد مستوى الحريات العامة من المقومات المهمة التي تقنعهم بضخ أموالهم في دولة والامتناع عن أخرى.
وتعني متانة القوى السياسية ثقة كبيرة من قبل السلطة الحاكمة في نفسها، فضلا عن تراجع الفساد ووجود قوانين عادلة يتم تطبيقها وحرية القطاع الخاص، وهذه من المحددات التي لها علاقة بالموقف السياسي في الدولة، وتدل على قوتها.
في كل مرة تبدي فيها السلطة المصرية استعدادا لترخي الحبل أمام الأحزاب السياسية، تعود إلى شده مرة أخرى، وتجد في بعض التحديات وسيلة لتبرير النكوص على الخطوات الإيجابية، فقد كان انتعاش الإرهاب وما ترتب عنه من استنفار أمني كابحا، ثم المشكلات الأمنية في الدول المحيطة بمصر اتخذت مبررا للتعطيل، إلى أن تصاعدت الأزمة الاقتصادية وبدت مدخلا لعدم مواصلة التقدم في ملف الإصلاحات السياسية الذي أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي تمسكه به.
تجاوبت السلطة المصرية مع تحريك ملف المعتقلين في قضايا رأي وحريات مؤخرا، وتبين أنه لا توجد ممانعات كبيرة في هذه المسألة، ومع ذلك يتعثر على الرغم من أنه أحد أبرز مطالب المعارضة التي طُرحت على طاولة الحوار الوطني، وإغلاقه سوف يعزز العلاقة معها، ويؤكد لمن شككوا في توجهات الحكومة أنها لا تمانع في إغلاقه تماما، لأن من أفرج عنهم لا يقلون صعوبة أو خطرا سياسيا عمن لم يفرج عنهم.
يمثل تجاوز الحكومة لهذه العقبة إشارة جيدة وأن لديها إرادة لطرق أبواب الإصلاحات السياسية، كما طرقت نظيرتها الاقتصادية، فالعلاقة بينهما قوية، وكلاهما غير منفصل عن الآخر، وأي تردد فيهما أو أحدهما تنعكس آثاره السلبية على الثاني، ما يعني أن السلطة مطالبة بإنهاء حلقات التردد في تحريك الملف السياسي بالتوازي مع ما تقوم به على الصعيد الاقتصادي، أو خلفه بما يوحي بأنه يحظى بالاهتمام الكافي.
كما أن وقوف قوى معارضة بجانب الدولة في خضم التحديات الخارجية التي تواجهها يضعف إذا تم تقويض الحياة السياسية أو جرى الحد من الانفتاح فيها، لأن القضايا المطلوب الحصول على دعم شعبي سخي فيها ذات مناحٍ سياسية، وإن كانت ملامحها الأمنية أكثر وضوحا، وكي تكسب أجهزة الدولة ثقة الجميع وعليها أن تبادلهم الثقة من خلال توفير المساحة اللازمة للحركة السياسية وفقا للقوانين المنظمة لها، وتوجد في مصر ترسانة كبيرة من القوانين يصعب الفكاك منها.
تنعكس النتائج السلبية للتردد في الإصلاحات السياسية على السلطة مباشرة، ويكشف التمسك بالتردد حجم النخبة التي تعتمد عليها الدولة وقدرتها على التأثير الحقيقي من عدمه، فالقضية تتجاوز حدود التركيز على العمل الأهلي وجعله رديفا للعمل السياسي، وإن كان يحمل قبسا منه، لكن اختزاله في هذه الجزئية يصيب الحياة العامة بالعقم، ويشير إلى أن النخبة التي أفرزتها السلطة وتدافع عنها فقيرة سياسيا، وتدفع من يملكون المال إلى المزيد من التسرب إلى العمل الأهلي تحقيقا لمكاسب مادية.
ومع أن التصور الأهلي يسد ثغرات سياسية تمكنت من خلالها جماعة الإخوان من التغلغل وسط شريحة من المواطنين، إلا أنه يعبر عن فقر في الخيال، فالسياسة لها قنوات عديدة، ولا يجب حصرها في مساعدات خلقت “لوبي” يدافع عن مصالحه أولا.