أبرزرأي

ترامب في لندن: التبعية والخلافات لا تخفيهما الحفاوة

كتب سعيد محمد, في الأخبار:

كرّست زيارة دونالد ترامب إلى لندن تبعية بريطانيا البنيوية للشقيقة الكبرى، أميركا، وقوبلت، رغم الأبّهة الرسمية، باحتجاجات شعبية

بذل القائمون على المراسم الملكية، والديبلوماسيون البريطانيون، جهوداً جبّارة، لتبدو زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الثانية إلى المملكة المتحدة – وهي سابقة تاريخية لرئيس أميركي – بمثابة تأكيد علاقة «خاصّة» «لا تنكسر». غير أن هذا العرض المتقَن من الأبّهة الملكية والمبالغات الديبلوماسية، لم يستطع إخفاء الحقائق المتعلّقة باختلال موازين القوى، والتبعية الاقتصادية البريطانية للولايات المتحدة، فضلاً عن الرفض الشعبي الواسع الذي عكسته شوارع لندن تجاه ما يمثّله الرئيس الزائر.

خلف واجهة العربات الذهبية وحرس الشرف والولائم الفاخرة في قلعة وندسور، كانت تدور حسابات دقيقة لمصالح النخب الحاكمة. بالنسبة إلى ترامب، كانت الزيارة بمثابة تتويج شخصي وانتصار إعلامي، وفرصة للهروب من الأزمات الداخلية في واشنطن والاستمتاع بمشهدية الإمبراطورية القديمة، التي تكنّ لها والدته الإسكتلندية الأصل، حنيناً خاصّاً. أمّا بالنسبة إلى رئيس الوزراء، كير ستارمر، فكانت مقامرة سياسية محفوفة بالمخاطر: هدفها تأمين مكاسب اقتصادية وتجنّب إهانة علنية من رئيس لا يمكن التنبؤ بتصرّفاته، حتى لو كان الثمن إظهار خضوع مبالغ فيه.

وجاءت ذروة زيارة ترامب الإعلامية، في الإعلان عن استثمارات أميركية مزعومة بقيمة 150 مليار جنيه إسترليني في بريطانيا. وقد احتفى ستارمر بهذا الرقم، باعتباره دليلاً على أن «ديبلوماسية القوّة الناعمة» تؤتي أكلها، وأن الإطراء الذي أغدقه على ترامب، حقّق فوائد اقتصادية ملموسة.

لكن التدقيق في التفاصيل، يكشف أن الرقم الضخم، هو في حقيقة الأمر تجميع لقرارات استثمارية كان عدد من الشركات قد خطّط لها مسبقاً، وفق ما لخّصه مسؤول تنفيذي في شركة بريطانية كبرى، بالقول: «كانت ستحدث على أيّ حال». فعلى سبيل المثال، تعهّدت شركة «بلاكستون» بضخّ 100 مليار جنيه إسترليني على مدى العقد المقبل، ولكن هذا الرقم يشمل الديون التي ستستخدمها الشركة لشراء الأصول، وهو جزء من خطّة أوسع بقيمة 500 مليار دولار لأوروبا بأكملها.

الأهمّ من ذلك، أن الاستثمارات المشار إليها، ولا سيما في قطاع التكنولوجيا، من شركات مثل «مايكروسوفت» و«إنفيديا» و«بالانتير»، تكرّس وضع بريطانيا كـ«دولة تابعة تكنولوجيّاً»، كما وصفها نائب رئيس الوزراء السابق، نيك كليغ. فبدلاً من بناء قطاع تكنولوجي وطني قادر على المنافسة، تتحوّل لندن إلى مجرّد مضيف ومقدّم خدمة للبنية التحتية لعمالقة «وادي السيليكون»، فاتحةً أسواقها وبياناتها وقوانينها التنظيمية المخفّفة أمام رأس المال الأميركي المهيمن، الذي يسعى بدوره إلى تأمين تفوّقه في معركة الذكاء الاصطناعي العالمية ضدّ الصين. ولعلّ الدليل الأوضح على أن هذه العلاقة ليست ندية، هو ملف صناعة الصلب. فرغم كل الحفاوة، لم يتزحزح ترامب قيد أنملة عن الرسوم الجمركية العقابية بنسبة 25% على صادرات الفولاذ البريطانية.

تكرّس الاستثمارات الأميركية وضع بريطانيا كـ«دولة تابعة تكنولوجيّاً»

وفيما كان ستارمر يفرش السجاد الأحمر لترامب، كانت آلاف الأصوات تهتف في ميدان البرلمان في لندن لتقول إن الرئيس الأميركي غير مرحّب به. وتجمّع ما يقدّر بـ5000 متظاهر، بدعوة من «ائتلاف أوقفوا ترامب» الذي يضمّ أكثر من 50 نقابة وجمعية خيرية، في مسيرة صاخبة حملت لافتات تندّد بالعنصرية، وتطالب بوقف تسليح إسرائيل، وتهاجم سياسات ترامب. والمتظاهرون لم يكونوا يعترضون على شخص ترامب فحسب – بحسب ما تحدّثوا إلى الصحف -، بل على «الترامبية» كأيديولوجيا تمثّل، من وجهة نظرهم، «كل ما نكرهه»: العنصرية، وكراهية المهاجرين، وإنكار تغيّر المناخ، والسياسات النيوليبرالية التي تخدم الأغنياء على حساب العمّال.

ولم تخلُ الاحتجاجات من لمسات إبداعية ورمزية، مثل بالون «الطفل ترامب» الشهير، والأقنعة التي كتب عليها «ترامب نتن». كما شهدت الزيارة محاولات لتسليط الأضواء الكاشفة الملونة لصورة تجمع ترامب بالملياردير المدان جيفري إبستين على جدران قلعة وندسور – حيث مقرّ إقامة الرئيس خلال الزيارة -، ما أدّى إلى اعتقال أربعة ناشطين. ورداً على ذلك، قامت صحيفة «القومي الإسكتلندي» بنشر الصورة ذاتها على صدر صفحتها الأولى.

خلف الابتسامات والمصافحات، كشف المؤتمر الصحافي في مقرّ إقامة رئيس الوزراء، «تشيكرز»، عن خلافات واضحة في وجهات النظر. ففي شأن ملفّ غزة، تحدّث ستارمر عن «الكارثة الإنسانية»، بينما ركّز ترامب بشكل شبه حصري على الرهائن الإسرائيليين، متجاهلاً معاناة الفلسطينيين.

وأعلن أن خطّة ستارمر للاعتراف بدولة فلسطينية هي «أحد خلافاتنا القليلة»، ولكنه فعل ذلك بابتسامة وتربيتة على الظهر، في إشارة إلى أن الخلافات يمكن احتواؤها طالما بقيت بريطانيا في الفلك الأميركي.
أمّا بالنسبة إلى أوكرانيا، فقد اكتفى ترامب بالقول إن بوتين «خذلني حقاً»، من دون تقديم أيّ إستراتيجية واضحة لإنهاء الحرب، رغم محاولة ستارمر تصويره كقائد في هذا الملف.

لكن التصريح الأكثر كشفاً للنوايا الإمبريالية الأميركية، جاء حين أعلن ترامب أن الولايات المتحدة تريد استعادة قاعدة «باغرام» الجوية في أفغانستان من حكم «طالبان»، ليس لأسباب تتعلّق بمكافحة الإرهاب، بل لأنها «على بعد ساعة واحدة من المكان الذي تَصنع فيه الصين أسلحتها النووية». ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نصح ترامب ستارمر بـ«استدعاء الجيش» لوقف الهجرة غير الشرعية، واصفاً إيّاها بأنها «تدمّر البلدان من الداخل».

بالنسبة إلى ترامب والولايات المتحدة، كانت الزيارة إنجازاً باهراً؛ فقد حصل الرئيس على التقدير الملكي الذي يشتهيه لتحسين صورته المتدهورة في بلاده، ونجح في تأمين شروط مؤاتية لرأس المال التكنولوجي الأميركي، وعزّز هيمنة بلاده، من دون تقديم أيّ تنازلات جوهرية. وكما اعترفت سوزي وايلز، كبيرة موظفي ترامب، بصراحة تامّة، فإن الزيارة لن تحدث أيّ فرق في قدرة بريطانيا على التأثير في سياسة الولايات المتحدة.

أما بالنسبة إلى ستارمر وبريطانيا، فالصورة أكثر تعقيداً؛ إذ نجح في تجنّب كارثة ديبلوماسية، وحصل شكليّاً على رقم استثماري كبير يمكن بيعه إلى الرأي العام المحلي كإنجاز، ولكن بثمن تكريس التبعية الاقتصادية والتكنولوجية لأميركا، واستمرار دور الشريك الأصغر في علاقة غير متكافئة.

على أن زيارة الدولة الثانية لترامب، بدت كعرض مسرحي باذخ، مليئ بالبريق، ولكن الزائف. وقد أظهرت أن «العلاقة الخاصة» في القرن الحادي والعشرين، هي علاقة تخدم في المقام الأول مصالح القوّة المهيمنة، وأن على الشريك الأضعف أن يكتفي بالاحتفالات والوعود، بينما تستمرّ الحقائق القاسية للاقتصاد السياسي العالمي في فرض نفسها على الجميع.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى