تحرُّك تركي للبحث عن دور إقليمي
كتبت رانيا مصطفى في صحيفة العربي الجديد:
تتجاوز زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصر، الأربعاء الماضي، جانبها الدبلوماسي تتويجاً لإعادة التطبيع بين البلدين، إلى جانب استراتيجي يبحث عن فرص لاقتناص دور في الصراعات الإقليمية، وفي مقدّمتها الحرب في غزّة، ودور الوساطة الذي تضطلع به القاهرة، باعتبار أن الأخيرة هي الأكثر تأثّراً بتبعات هذه الحرب، والمعنيّة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة، خصوصاً أن الزيارة جرت بعد يوم من لقاء مصر وقطر وإسرائيل والولايات المتحدة. التقطت أنقرة لحظة تداول المبادرات بشأن الحرب في غزّة، وهي تراهن على قدرتها على التواصل مع المقاومة الفلسطينية، باعتبار حركة حماس فرعاً إخوانياً، وتؤيد، من وجهة نظر إنسانية وأخلاقية وحضارية، وحسب تصريحات أردوغان، مطلب دولة فلسطينية ذات سيادة، وتتطلّع إلى دور أكبر في إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة عبر مصر، وبناء مستشفى ميداني تركي، وإلى دور في إعادة الإعمار.
كانت تركيا تراهن على سيطرة أنظمة إسلامية على الحكم بعد ثورات الربيع العربي؛ انكفأ دورها وقلّ نفوذها في العالم العربي نتيجة تلك المراهنة، بعد التراجع الكبير الذي أصاب التيار الإسلامي، حيث كان موقفها مناهضاً للانقلاب العسكري على نظام الإخوان المسلمين في القاهرة، وتسبّب في القطيعة مع مصر إضافة إلى السعودية والإمارات. كما أن نفوذها في سورية عبر دعم المقاتلين الإسلاميين تراجع، بسبب أولوية أمنها القومي من خطر الأحزاب الكردية المصنّفة إرهابيةً في تركيا، والذي تسبّب بتراجع في العلاقات مع واشنطن وحلف الناتو، خصوصاً بعد صفقة منظومة الدفاعات الجوية الروسية إس – 400.
أهداف استراتيجية تركية، في مقدمتها ترسيم الحدود البحرية مع مصر، حيث تأمل أنقرة إنجازه، وأن يكون ورقة مساومة مع اليونان
يضاف إلى ذلك تصاعد حدّة الانتقادات الداخلية لحكومة حزب العدالة والتنمية بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسب التضخّم خصوصاً، وهناك الأزمة الدبلوماسية مع اليونان بسبب الخلاف على قبرص وترسيم الحدود البحرية، ومنتدى غاز شرق المتوسّط الذي ضمّ مصر وسبع دول واستبعد تركيا، وتشكيل محورٍ معادٍ لها يضم مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وفرنسا. دفع ذلك كله أردوغان إلى مراجعة حساباته تجاه منطقة الشرق الأوسط، حيث أعاد العلاقات مع السعودية والإمارات، وقلّص نشاط المعارضة المصرية الإعلامية والسياسية في تركيا، بل وأخرج بعضها، وكان هناك تصريح وزاري يحبّذ التقارب مع مصر قوبل بترحيب مماثل في القاهرة، ثم مصافحة الرئيسين أردوغان وعبد الفتاح السيسي في افتتاح كأس العالم في قطر 2022، ولقاءات أخرى، وتبادل وزيري الخارجية الزيارات، وصولاً إلى تبادل السفيرين في مايو/ أيار 2023.
إذا كان توقيت الزيارة قد ارتبط برغبة تركية في المشاركة في نقاش الهدن في غزّة، وفي الترتيبات الأمنية للمنطقة، ومنع انزلاقها إلى حربٍ أوسع، فهناك أهداف استراتيجية تركية لا تقلّ أهميةً، في مقدمتها ترسيم الحدود البحرية مع مصر، حيث تأمل أنقرة إنجازه، وأن يكون ورقة مساومة مع اليونان بشأن استخراج الغاز الطبيعي من شرق المتوسط، وذلك فيما لا تريد القاهرة إغضاب حلفائها في أثينا ولارنكا، لكن التقارب مع أنقرة سيمكّنها من لعب دور الوسيط في تخفيف التوتّر بين تركيا واليونان. ويشكّل الملفّ الليبي مسألة خلافية بين الطرفين اللذين يدعمان حكومتين متعارضتين، فأمام تركيا اتفاقاتٌ مع حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها في طرابلس الغرب، لكن التقارب قد يشجّع على تخفيف التوتر والعمل على إنهاء الانقسام، وعقد انتخابات رئاسية وتشريعية، وإعادة إعمار ليبيا. وهناك ملفّات خلافية قد تجد طريقها إلى الحل في السودان والصومال وبشأن التحركات الإثيوبية في القرن الأفريقي.
بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية بشقّ الأنفس، العام الماضي، بدأ أردوغان يتّجه إلى تغيير استراتيجيته صوب التقارب مع واشنطن والغرب
لم تتأثر العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين طوال عقدٍ من القطيعة الدبلوماسية والعداء السياسي؛ كان حجم التبادل التجاري في شبه تزايد مطّرد، وقارب ثمانية مليارات دولار في 2022. ويعيش البلدان أزمة اقتصادية ومعيشية، وارتفاع معدّلات التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية، ويتشابهان في عدد السكان وضخامة الأسواق، وكان من مصلحتهما فصل العلاقات التجارية عن التنافر السياسي. وقد اصطحب أردوغان معه إلى القاهرة وزراء الخارجية والمالية والدفاع والصحة والطاقة والصناعات الثقيلة العسكرية لتوقيع اتفاقات جديدة وزيادة حجم التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة وفق تصريح أردوغان. والخطّة أن يجرى التبادل بالعملات المحلية، وتمديد العمل باتفاقية “الرورو” بخصوص مرور الشحنات التركية عبر قناة السويس، وتمديد اتفاقية التجارة الحرّة بين البلدين. الجديد هو شراء مصر طائرات الدرونز التركية “بيرقدار” التي تحظى بإشادة عالمية بسبب دورها الحاسم في صراعاتٍ استخدُمت فيها، في ناغورنو كاراباخ وشمال سورية وليبيا وأوكرانيا؛ وحققت تركيا مبيعات كبيرة منها. وهي تقدّمها إلى مصر بتسهيلات كبيرة، ولغرض تجاري بحت، لا يأخذ بالاعتبار مواقف مصر المتعارضة مع تركيا في ملفّات إقليمية كثيرة. في كل الأحوال، واشنطن راضية عن شراء مصر أسلحة دفاعية تركية، ما سيخفّف الضغوط الأميركية على مصر للتخلّي عن شراء الأسلحة الروسية.
التقارب التركي مع العالم العربي في توقيت تصاعد حدّة الصراعات في الشرق الأوسط وأوكرانيا مرحّبٌ به من الغرب، لأنه يصبّ في تخفيف حدّة التوترات. بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية بشقّ الأنفس، العام الماضي، بدأ أردوغان يتّجه إلى تغيير استراتيجيته صوب التقارب مع واشنطن والغرب، حيث وافقت تركيا على عضوية السويد في حلف الناتو، مقابل إتمام صفقة شراء طائرات إف- 35 الأميركية. ويزيد الانفتاح على العالم العربي من التقارب التركي – الغربي، وأن تلعب أنقرة دوراً حاسماً في الوساطة مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، إضافة إلى دورها المرتقب في الوساطة لتسوية الصراعات الإقليمية.