بيانات المقاومة الخالدة وبيانات الحكّام الخائبة
كتب نور الدين سالمي في العربي الجديد
قال وزير الخارجية وشؤون المغتربين الأردني، أيمن الصفدي، “إن حماس لم تصنع الصراع، ولكن الصراع هو من صنع حماس… وأن الحرب لم تنطلق في السابع من أكتوبر، لكنّ لها جذوراً”… نعم! تماما هذا صحيح وهي بديهيات، ولكن كثيرين ينكرونها.
لم يتابع إلا قليلون القمّة العربية الإسلامية الطارئة الباهتة في الرياض، والتي جاءت بعد أكثر من شهر من اندلاع العدوان الهمجي المتوحّش على أهلنا في غزّة. وليس هذا جديدا، فلا أحد ينتظر ولا يتوقّع منها شيئا. وحتى الخطابات البائسة الباردة التي قرئت، في المناسبة، تطغى على أغلبها نبرة انهزامية لا روح فيها، ابتداء من خطاب محمود عبّاس، ومن حضور الطاغية بشار الذي نكّل بالشعب السوري. خطابات لا جديد فيها ولا تخرُج عن المعهود، عدا عن الإدانة والشجب والاستنكار…. والبيان (الختامي) الخائب الذي انتهت به هو خلاصتها الطبيعية. ولا فائدة من أي تعليق أضيفه هنا غير التذكير بالبديهة والاستنكار الساخر في المثل التونسي “أأنت طامع في العسل من الدبّور؟”، لا يعطي الدبّور عسلا، أنت محظوظ إذا مرّ بك ولم يُؤذِك بلسعته.
كما أسلفت القول، غداة السابع من أكتوبر، الفعل الذي قدّمته المقاومة الفلسطينية في غزّة هو البيان الخالد الذي نقش لحظة تاريخية مجيدة في ذاكرة الشعوب، وحركات الكفاح والمقاومة والتحرّر. لحظة ستخلّدها ليس فقط الذاكرة العربية والإسلامية للهزيمة التي أوقعت فيها ما يقال إنها أعتى الجيوش وللإهانة والعار التي وصمت به المحتل الغاصب. كل ما بعدها من أحداث وبطولات هي أيضا بياناتٌ ناصعةٌ مشرّفة.
أستذكر الآن نقاشا يعود الى بضع سنوات، حدث بيني وبين دبلوماسي كبير من دولة عربية تدّعي رسميّا نصرة القضيّة الفلسطينية، قال فيه بلا تردّد إن “حماس” حركة إرهابية بامتياز. والأدهى، أن هذا الدبلوماسي عُيّن، بعد سنة ونيف، سفيرا لبلده في دولة عربية تدّعي (رسميا) الوقوف إلى جانب الفلسطينيين. لذلك، الموضوع، يا سادة، أعمق من مجرّد التظاهر الكاذب بالتعاطف… وهذا ما دفع المقاومة في فلسطين إلى التعويل على نفسها، وقد يكون أكثر ما تطلبه وتتمناه أن لا تؤتى ممن يدّعون الممانعة والمناصرة.
يتجاوز الدرس من لحظة 7 أكتوبر البطولة التي سيذكرها التاريخ. تكتب المقاومة منذ ساعتها بياناتٍ خالدة في الصمود والعزّة، وتسطّر أكبر الملاحم في مقاومة الاحتلال وتحرير الشعوب. طبعا، لا يخفي على الجميع أن المقاومة التي وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم انطلقت بحجارة يرجُم بها الأطفال جنود المحتل. يتجاوز الدرس اللحظة والتاريخ، الدرس هو درس في الشجاعة والايمان بالقضيّة وحسن الإعداد ودقّة التخطيط وأبعاد أخرى كثيرة ومتعددّة.
أعود إلى ما قاله أيمن الصفدي، وأقول مرّة أخرى نعم! الصراع هو من أوجد “حماس” وقوّاها وجعلها، رغم كل شيء، ومعها من معها من فصائل المقاومة الصادقة، رقما صعبا جدّا في المعادلة الإقليمية والدوليّة. ولن أعود إلى تطوّر المقاومة وأشكالها وأدواتها وأسلحتها، ابتداء من الحجر وصولا الى الصواريخ والطائرات المحليّة الصنع، لكني أذكّر بأن الصراع الذي صنع “حماس” ليس فقط صراعا مع كيان كريه غاصب، بل أيضا مع حكّام عرب يحاربون الديمقراطية، وواقع دولي يحرّمها على الشعوب العربية. وهنا، من المفيد التذكير بأوّل التصريحات عند الخيط الأبيض الأول للربيع العربي، بعد هروب الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، مساء 14 يناير/ كانون الثاني 2011، سارع بنيامين نتنياهو (16 يناير 2011) بالقول، في بداية جلسة الحكومة، إن الثورة التونسية تعكّر الاستقرار في المنطقة، وعبّر عن مخاوف كثيرة تجاه هذا التطوّر. ويبدو مؤسفا مدى علم المحتلّ بطبيعة الحكّام العرب، فمن الوهلة الأولى، كتب الباحث في معهد أبحاث الأمن القومي، شلومو بروم، مقالا، بيّن فيه أنه، رغم توسّع دائرة الاحتجاجات في الدول العربية، فإن “لمعظم الحكومات فيها تجربة غنيّة في السيطرة على أعمال الشغب”، لذلك “ستنجح في السيطرة على الأوضاع في المدى القريب”. ولم تكن توقّعات الباحث في معهد موشيه ديان في جامعة تل أبيب، إيل زيسر، بعيدة عن تكهّنات مواطنه شلومو بروم. ففي مقال نشره في صحيفة يسرائل هيوم بعنوان “فراغ خطير حول إسرائيل”، عبّر عن قلقه الشديد، لكنّه أبدى، أيضا، ثقته في سيطرة الحكّام العرب على الاحتجاجات الشعبية، وإلا ستدفع إسرائيل ثمنا لذلك. لذلك، كان الأمر جليّا من البداية، ليس فقط لنتنياهو وحكومته، بل أيضا كل من يدافع عن وجود هذا الكيان، أن قيام نظم ديمقراطية في المنطقة أمر خطير، وأنه لا بد من دعم الأنظمة العربية القائمة وضمان استقرارها.
من الضروري أن نذكّر الجميع أن حركة حماس جاءت إلى السلطة عقب انتخابات نزيهة وشفّافة. ومن نافل القول أيضا إن اللجنة المركزية للانتخابات الفلسطينية أقرّت آنذاك باكتساح “حماس” نتائج الانتخابات التشريعية بحصولها على 76 مقعدا من أصل مقاعد المجلس التشريعي البالغة 132 (وبالتالي بأغلبية مطلقة 57.57%) في انتخابات بلغت نسبة المشاركة فيها حوالي 77% . وقد يتناسى بعضهم أنه رغم تأكيد “حماس” مباشرة بعد الإعلان عن النتائج، وعلى لسان قيادييها أنها تريد الاجتماع على الفور مع الرئيس محمود عبّاس، والشروع في مشاوراتٍ مكثّفة مع حركة فتح والفصائل الفلسطينية الأخرى بشأن تشكيل الحكومة الجديدة، وأنها تعمل على تغيير نظرة الغرب تجاه الحركة من خلال الحوار، وإنها مستعدّة لتمديد الهدنة في حال احترام “إسرائيل” لها… رغم ذلك كله، لم يُسمح لـ”حماس” بالمواصلة، ويبدو أن قرار القضاء عليها موجود منذ ذلك الوقت.
ما أوصل “حماس” إلى قناعة بدفع ثمن التحرّر ولو كان باهظا، ولا أظنّها توقّعت أقل من هذا الثمن، بل أكثر لمعرفتها الدقيقة بعدوّها، هو علمها أن لا سبيل غير المقاومة. وصلت المقاومة الفلسطينية إلى هذه القناعة لما شهدته طوال ثلاثة أرباع قرن من جرائم العدو وصمت العرب ودعم الغرب. ما زالت المقاومة، وفي مقدمتها، “حماس” تعطي دروسا، وتكتب بياناتٍ خالدة، ولا تهتم بالسقوط الأخلاقي الذي تراه من أغلب الحكومات العربية والغربية. فهمت الحركة الدرس جيّدا، فهمت أنه يجب ألا تنتظر اعترافا بحقّها في المقاومة من أيٍّ كان، فهمت أن هذا العدو الغاصب والكيان الهمجي تحميه عواصم غربية تمنع أي حقٍّ للشعوب العربية في الحرية والسيادة وتحرّم عليها الديمقراطية من أجل ذلك.
شكرا “حماس” على الدرس الذي لم يعه بعد كثيرون، رغم إجهاض كل محاولات ثورات الربيع العربي من أجل الحرية والديمقراطية. شكرا، لأننا أصبحنا اليوم نرى رأي العين النفاق، بل القمع في حكّامنا، تماما كما نرى الازدواجية، بل العنصرية في غيرهم. اليوم لا صوت يعلو على صوت المعركة، وغدا جيل عربي جديد عاش وشهد ما حدث. نعم! تماما الصراع سيصنع جيلا جديدا على تمام الوعي بالواقع العربي والإقليمي. جيلٌ كثير الفعل قليل الكلام، تماما كما علّمتنا المقاومة الفلسطينية المجيدة. جيلٌ من نوع يسمع بيانات الحكّام الخائبة، ويرتّل قسوما في صمت، و”قسم الأبكم في صدره” كما يقول المثل التونسي.